الشرعية عمومًا قائمة إلى يوم القيامة، لهذا ربطها العلماء بصدقة، أي صدقة جارية مستمرة بعد مماته، وليس المراد أن أجره لا ينقطع إلى يوم القيامة، وإن فنى الزرع أو الغرس، بل المراد ما بقي ذلك الزرع والغرس منتفعًا به، وإن بقي إلى يوم القيامة.
-[فقه الحديث]-
في هذه الأحاديث فضيلة الغرس والزرع، واستدل بها بعضهم على أن الزراعة أفضل المكاسب، قال النووي: وقد اختلف العلماء في أطيب المكاسب وأفضلها، فقيل: التجارة، وقيل الصنعة باليد، وقيل: الزراعة، وهو الصحيح. اهـ.
فالذي يفضل الزراعة على بقية المكاسب يستدل بهذا الحديث وبأنها أقرب المكاسب إلى التوكل، وأكثرها تذكيرًا بفضل الله وقدرته، ولما فيها من النفع العام للآدمي والدواب، ولأنها لا بد فيها في العادة أن يؤكل منها بغير عوض.
والذي يفضل التجارة قد يستدل بقوله تعالى {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}[الجمعة: ١٠] وبأن الكثيرين من المهاجرين كانوا يضربون في الأسواق.
والذي يفضل الصناعة يستدل بحديث "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود - عليه السلام - كان يأكل من عمل يده".
والتحقيق أن الإطلاق في هذا غير سليم، بل كل منها ومن غيرها يختلف باختلاف النوع والشخص والناس والظروف العامة، فليست الزراعة بالعمال مثل الزراعة باليد، فالزارع بنفسه يأكل من عمل يده، والتاجر يأكل من عمل يده، وزراعة ما يحتاجه الناس، وتتوقف عليه حياتهم كالحبوب، لا يساويها زراعة الكماليات والفواكه المرتفعة الأسعار ابتغاء الكسب، والزراعة حين تكثر المزروعات ليست كالزراعة في أوقات الحاجات والضرورات والزارع المحتسب المخلص لا يساويه المنتفع المستغل، فدرجة الحل في كل مكسب تختلف، ودرجات النفع العام من التكسب تختلف، ودرجات حاجات الناس إلى هذا التكسب تختلف. المهم أن يعمل المسلم ولا يتواكل، وأن يجد في الحلال ولا يتكاسل.
وفي الأحاديث المذكورة أن الغرس والزرع - وكذا الصنائع والتجارة - مباح، وغير قادح في الزهد، أما حديث الترمذي "لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا" فهو محمول على الاستكثار من الضياع، والانصراف إليها بالقلب. الذي يفضي بصاحبه إلى الركون إلى الدنيا، فسبيل الضيعة سبيل المال، غير مستحب إلا إذا أخذه بحقه ووضعه في حقه.
وفي حديث أم مبشر أن الأجر يحصل لمن قام بالزرع، ولو لم يكن مالكًا له أو للأرض، فقد سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغارس، وهو يعلم أنها المالكة.
وفي الأحاديث جواز نسبة الزرع إلى الآدمي، فحديث ابن أبي حاتم "لا يقل أحدكم زرعت، ولكن