الحكمة من وجودها كذلك في التشريع أن تكون شاهدًا على قصور العقل البشري، فلا يغتر، ولا يتمرد، ويستسلم، ويعترف بصحة قوله تعالى {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}[الإسراء: ٨٥]{وفوق كل ذي علم عليم}[يوسف: ٧٦] وهذان القولان يتساوقان مع قوله تعالى {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به، كل من عند ربنا}[آل عمران: ٧] فالرأي الأول يتفق مع من وقف على {والراسخون في العلم} أي يعلمون تأويله، والرأي الثاني يتفق مع من وقف على {وما يعلم تأويله إلا الله} أي والراسخون في العلم لا يعلمون تأويله، ويسلمون به.
(فمن اتقى الشبهات) أي جعل بينه وبين الوقوع فيها وقاية، أي من بعد عنها، وحذر منها، ومن الوقوع فيها، واستوثق في دراستها للعلم بحكمها و"الشبهات" بضم الشين وضم الباء، جمع شبهة، وفي رواية للبخاري "فمن اتقى المشبهات".
(استبرأ لدينه وعرضه) السين والتاء للطلب، أي طلب البراءة والنقاء لدينه من النقص، ولعرضه من الطعن فيه - وعرض الإنسان موضع الذم والمدح فيه - أو للصيرورة، أي صار دينه بريئًا نقيًا من النقص، وصار عرضه بعيدًا عن الطعن، لأن من لم يعرف باجتناب الشبهات لم يسلم من طعن الطاعنين.
(ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) أي عرض نفسه للوقوع في الحرام، وفي رواية للبخاري "فمن ترك ما شبه عليه من الإثم، كان لما استبان له أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان" وفي التشبيه الآتي زيادة إيضاح.
(كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه) في رواية للبخاري "كراع يرعي حول الحمى، يوشك أن يواقعه" والمراد من الحمى المكان المحمي.
(ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) كان ملوك العرب يجمعون لمراعي مواشيهم أماكن مختصة، يتوعدون من يرعى فيها بغير إذنهم، بالعقوبة الشديدة، فمثل لهم النبي صلى الله عليه وسلم بما هو مشهور عندهم، فالخائف من العقوبة، المراقب لرضا الملك، يبتعد عن ذلك الحمى، خشية أن تقع مواشيه في شيء منه، فبعده أسلم له، مهما اشتد حذره، وغير الخائف، غير المراقب يقرب منه، ويرعى من جوانبه، فلا يأمن أن تنفرد ماشية شاردة، فتقع فيه بغير اختياره، أو يمحل المكان الذي هو فيه، ويرى الخصب في الحمى، فلا يملك نفسه أن يقع فيه لاعتياده التساهل، فالله سبحانه وتعالى هو الملك حقًا، وحماه محرماته، من قرب منها بالوقوع في الشبهات قرب من الوقوع في الحرام.
قال الحافظ ابن حجر: وقد ادعى بعضهم أن التمثيل من كلام الشعبي، وأنه مدرج في الحديث، وتردد ابن عون الراوي عن الشعبي - في رفعه، وقال: لا أدري المثل من قول النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو من قول