وقيل: إن السائل كان وافد قومه، يتعلم ويعلمهم، فقصد نفي الزيادة والنقص في التبليغ كأنه قال: لا أزيد في الإبلاغ على ما سمعت ولا أنقص في تبليغ ما سمعت منك إلى قومي، فقال صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق.
وقيل: كان كلام الرجل على سبيل الكناية والمبالغة في التصديق والقبول، والمعنى قبلت قولك فيما سألتك عنه قبولا لا أزيد عليه سؤال أحد، ولا أنقص عنه بالقبول، فقال صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق.
وقيل: يحتمل أنه أراد لا أزيد عليه بتغيير حقيقته، فلا أجعل الظهر خمسا مثلا ولا أنقص ما وجب، فقال صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق.
ويعكر على هذه الإجابات كلها قول الرجل في رواية البخاري في كتاب الصيام "والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا".
والأحرى بالقبول أن يقال: إن المراد من الفلاح النجاة من النار مصداقا لقوله تعالى: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز}[آل عمران: ١٨٥] ومصداقا لرواية "دخل الجنة وأبيه إن صدق" التي تعد مفسرة للفلاح في الرواية الأخرى.
ولا شك أن المتمسك بالفرائض ناج وإن لم يفعل النوافل، وليس في الكلام أنه إذا أتى بزائد على ذلك لا يكون مفلحا، لأنه إذا أفلح بالواجب ففلاحه بالمندوب مع الواجب أولى، كما أنه ليس في الكلام ما يمنع من أن يكون غيره أكثر منه فلاحا. وإنما ترك صلى الله عليه وسلم أمره بالسنن وأقره على الاكتفاء بالواجب مع أن المواظب على ترك النوافل مذموم، لقرب عهده بالإسلام حتى يأنس، وينشرح له صدره ويحرص على الخير.
الخامس: كيف نوفق بين قوله صلى الله عليه وسلم هنا "أفلح وأبيه إن صدق" وبين قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"؟
وأجيب بأنه يحتمل أن يكون هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى، وقيل: إن في الكلام هنا مضافا محذوفا، والأصل -ورب أبيه- ونقل العيني عن بعض مشايخه أنه يحتمل أن الحديث "أفلح والله" فقصر الكاتب اللامين، ولم يكن نقط، فقرئت:"وأبيه" وهذا الاحتمال مردود، لأن اعتماد النقل والرواية كان على النطق لا على الخط، ولو تطرق هذا الاحتمال لزعزعت الثقة بالروايات الصحيحة، وقال الحافظ ابن حجر: غفل القرافي فادعى أن الرواية بلفظ "وأبيه" لم تصح، لأنها ليست في الموطأ. وكأنه لم يرتض الجواب، فعدل إلى رد الخبر مع أنه صحيح لا مرية فيه. اهـ.
وأحرى الإجابات بالقبول أن قوله صلى الله عليه وسلم "أفلح وأبيه إن صدق" ليس حلفا، إنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامهم غير قاصدة بها حقيقة الحلف، والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف، لما فيه من إعظام المحلوف به ومضاهاته به سبحانه وتعالى، فهي بمثابة قولهم: تربت يمينك.