ثم طوى الكتاب وبمظاهر التكريم حفظه وظهر عليه الميل نحو الإيمان فكثر اللغط في المجلس وارتفعت الأصوات باستنكار الكتاب واستنكار ما فيه فأمر هرقل بإخراج أبي سفيان وأصحابه فخرجوا فقال أبو سفيان لأصحابه لما خلا بهم إن أمر محمد سيعظم إن هرقل يخاف محمدا قال أبو سفيان: ودخلني الخوف من محمد وأيقنت أنه لا محالة ظاهر وغالب حتى أدخل الله في قلبي الإسلام فأسلمت عام الفتح بعد هذه الحادثة بسنتين.
هذا ما كان مع أبي سفيان وأما ما كان من شأن هرقل فقد غزا جيش كسرى بلاده ثم انهزم الفرس فمشى هرقل على قدميه من حمص إلى بيت المقدس شكرا لله تعالى وهو مازال في داخله يعالج أمر الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويجاهد أن يؤمن ويعلن إسلامه مع الاحتفاظ بعرشه وملكه إنه كان يتمنى أن يسلم قومه الروم بل حاول أن يدعوهم إلى ذلك صريحا فقد روى البخاري أنه دعا زعماء الروم وعظماءهم إلى قصره وأغلق عليهم أبوابه ثم طلع عليهم من شرفة عالية فقال لهم: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد؟ وأن يثبت ملككم؟ بايعوا هذا النبي. فحاصوا حيصة حمر الوحش واتجهوا إلى الأبواب نفورا من هذه الدعوة ورفضا لها فوجدوا الأبواب مغلقة فأعادهم هرقل وهدأ من روعهم وغضبهم وقال لهم: إني قلت لكم ما قلت لأمتحن مدى تمسككم بدينكم فشكرا لكم على شدة تمسككم به فقد رأيت منكم ما سرني فسجدوا له ورضوا عنه.
واستمر هرقل مظاهرا الروم وأعد جيوشه ووجهها لحروب المسلمين.
-[المباحث العربية]-
(أن أبا سفيان أخبره من فيه إلى فيه) هذا من أبي سفيان من قبيل التحمل كافرا والأداء مسلما وهذا جائز ولا شيء فيه لأن العبرة أن يكون الراوي لأداء ما تحمل وهو عاقل.
وقوله "من فيه إلى فيه" قصد به التحقق من السماع والتوثيق بالرواية كقولهم سمعته أذناي ووعاه قلبي وهو أيضا يرفع إيهام الواسطة بين التلميذ والشيخ وكان حقه أن يقول: من فيه إلى أذني أي من فم أبي سفيان إلى أذن ابن عباس لكنه آثر المشاكلة لظهور المراد وهذا نوع بليغ من البديع.
(انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم) المعنى انطلقت إلى الشام تاجرا في مدة سريان صلح الحديبية الذي عقد أواخر سنة ست من الهجرة وكانت مدة الصلح عشر سنين وقيل: أربع سنين والأول أشهر لكن قريشا نقضوا العهد فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثمان وفتح مكة والظاهر أن انطلاق أبي سفيان كان في السنة الأولى من صلح الحديبية في المحرم سنة سبع وقوله "بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي بيننا معشر قريش في مكة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حينذاك زعيمهم والمتحدث باسمهم والمتعاقد عنهم وعند ابن إسحق في المغازي عن أبي سفيان قال: "كنا قوما تجارا