الرابعة: العزم والتصميم، وهو الميل إلى الشيء وعدم النفور عنه والتصميم على فعله، وقوة قصده، ورفع التردد فيه.
فإذا افترضنا درجة حسابية مئوية أعطينا الخاطر ما دون الـ ٥٠/ وتختلف مراتبه، وأعطينا التردد والتأرجح ٥٠/ وأعطينا الهم من ٥١/ إلى ٩٠/ مثلا، وتتفاوت مراتبه، وأعطينا العزم ما فوق ذلك، وتتفاوت مراتبه أيضا.
ولما كانت هذه المراتب الأربع يطلق عليها حديث النفس، خشي الصحابة أن يؤاخذوا بها كلها، حين نزل قوله تعالى:{وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} فبين لهم أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها - كما تقدم في الحديث السابق- ووضح لهم في هذه الأحاديث أن الله تجاوز لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عما حدثت به نفسها، وأن من هم بحسنة فله كذا، ومن هم بسيئة فحكمه كذا.
وقد قدمت أن المراتب الثلاث الأولى لا خلاف في تجاوز الله عنها، أما المرتبة الرابعة وهي العزم والتصميم، واستقرار الفعل في النفس، وعدم التردد فيه، فهي من حيث ما يتعلق بها به قسمان: قسم خاص بالعقيدة وهو من أعمال القلوب وحدها، كالإيمان بالله تعالى وبالرسول صلى الله عليه وسلم وباليوم الآخر وبما علم من الدين بالضرورة، فالشك فيه وإنكاره قلبا كفر، ويعاقب عليه بلا خلاف.
وقسم دون ذلك من المعاصي، وفي تجاوز الله عنه خلاف بين العلماء.
إذ ذهب فريق الورع وتغليب الخوف على الرجاء إلى المؤاخذة عليه، مستدلين بقوله تعالى:{إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة}[النور: ١٩] وبقوله: {ولم يصروا على ما فعلوا}[آل عمران: ١٣٥] وقوله: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم}[الحجرات: ١٢] وقوله: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}[البقرة: ٢٢٥] وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه".
وحملوا أحاديث العفو التي معنا على ما دون العزم والتصميم من الخاطر والتردد والهم، نعم قالوا: إن العزم على السيئة يكتب سيئة مجردة، وليست السيئة التي هم أن يعملها، فسيئة العزم غير سيئة الفعل. ثم افترق هؤلاء فقالت طائفة: بل يعاقب عليه يوم القيامة، ولكن بالعتاب لا بالعذاب، وحملوا عليه النجوى.
وذهب الذين يغلبون الرجاء إلى أن الله قد تجاوز عن حديث النفس، ولا يؤاخذ -في غير الكفر- إلا على أفعال الجوارح، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به" فما قبل الكلام والفعل متجاوز عنه بنص الحديث.
ثم الحديث القدسي يقول:"إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة" ويقول في الرواية الأخرى: "وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة" ويقول في الرواية التي بعدها: "وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها ما لم يعملها، فإذا