للعلماء، وهما في مذهب الشافعي، وقال الماوردي: كان فرض عين على المهاجرين، دون غيرهم، ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح، في حق كل من أسلم، إلى المدينة، لنصر الإسلام، وقال السهيلي: كان فرض عين على الأنصار، دون غيرهم، ويؤيده مبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، على أن يؤيدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصروه، فيخرج من قولهما أنه كان فرض عين على الطائفتين، فرض كفاية في حق غيرهم، ومع ذلك فليس في حق الطائفتين على التعميم، بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة طارق، وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء، ويؤيد هذا ما وقع في قصة بدر، وقيل: كان فرض عين في الغزوة التي يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها، والتحقيق أنه كان فرض عين على من عينه النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم الحال الثاني بعده صلى الله عليه وسلم، فهو فرض كفاية على المشهور، إلا أن تدعو الحاجة إليه، كأن يدهم العدو، ويتعين على من عينه الإمام، ويتأدى فرض الكفاية بفعله في السنة مرة عند الجمهور، ومن حجتهم أن الجزية تجب بدلا عنه، ولا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقا، فليكن بدلها كذلك، وقيل: يجب كلما أمكن، وهو قوي. والذي يظهر أنه استمر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تكاملت فتوح معظم البلاد، وانتشر الإسلام في أقطار الأرض، ثم صار إلى ما تقدم ذكره، والتحقيق أيضا أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم، إما بيده، وإما بلسانه، وإما بماله، وإما بقلبه. اهـ.
فظاهر هذه الأحاديث أن الجهاد أفضل الطاعات، لكن يشكل عليه ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم أي؟ قال:"ثم بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال الجهاد في سبيل الله. فسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني" مما يدل على أن الصلاة على مواقيتها وبر الوالدين أفضل من الجهاد؛ وما رواه البخاري من حديث ابن عباس مرفوعا "ما العمل في أيام، أفضل منه في هذه -يعني الأيام العشر- قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء" مما يدل على أن العمل في عشر ذي الحجة مقدم على الجهاد بالنفس فقط، أو المال فقط، أو بهما مع العودة، وما أخرجه الترمذي وأحمد وصححه والحاكم من حديث أبي الدرداء مرفوعا "ألا أنبئكم بخير أعمالكم؟ وأزكاها عند مليككم؟ وأرفعها في درجاتكم؟ وخير لكم من إنفاق الذهب والورق؟ وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال: ذكر الله" مما يدل على أن الذكر بمجرده أفضل من أبلغ ما يقع للمجاهد، وأفضل من الإنفاق، مع ما في الجهاد والنفقة من النفع المتعدي.
وأفضل جواب عن هذا الإشكال أن هذه الأعمال الفاضلة تختلف درجات كل منها باختلاف الظروف والأحوال، ففي زمن يحتاج المسلمون فيه إلى الجهاد يكون الجهاد أفضل، وفي وقت يكون للشخص والدان محتاجان للبر مع ضعف الحاجة إلى المجاهدين يكون البر أفضل، وفي وقت لا يحتاج إلى الجهاد ولا إلى البر تكون الصلاة في مواقيتها، وفي وقت المحافظة على الصلاة في مواقيتها يكون الذكر أفضل، ثم إن كل واحد من هذه الأعمال لا يكون أفضل بإطلاق، بل سيتأثر فضله بدرجة الإخلاص ودرجة الأداء ودرجة التضحية والمشقة، ونحو ذلك، فقد يسبق درهم ألف درهم، كما