(قال الزهري: ولم نسمع بهذا، حتى قدمنا الشام) في الرواية الثانية "قال الزهري: ولم أسمع ذلك من علمائنا بالحجاز، حتى حدثني أبو إدريس، وكان من فقهاء أهل الشام" وظاهر هذا أن الزهري كان يشك في هذا الحكم، فعلماء الحجاز آخر الناس عهداً وأعلمهم بأحكام الشريعة.
(نهى عن كل ذي ناب من السبع) دون ذكر الأكل في الرواية، لكنه مراد من الروايات التي لم يذكر فيها، فيكون توجيهها على تقدير مضاف.
(وعن كل ذي مخلب من الطير) المخلب بكسر الميم وفتح اللام، وهو للطير والسباع بمنزلة الظفر من الإنسان.
-[فقه الحديث]-
قال النووي: في هذه الأحاديث دلالة لمذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد وداود والجمهور أنه يحرم أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وقال مالك: يكره، ولا يحرم، واحتج بقوله تعالى:{قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به} واحتج أصحابنا بهذه الأحاديث، قالوا: والآية ليس فيها إلا الإخبار بأنه لم يجد في ذلك الوقت محرماً إلا المذكورات في الآية، ثم أوحي إليه بتحريم كل ذي ناب من السباع، فوجب قبوله والعمل به. اهـ
ويحاول الجمهور أن يتخلصوا من ظاهر الآية، فيقول بعضهم -بالإضافة إلى قول النووي- إن الآية مكية، وحديث التحريم بعد الهجرة، فعند أبي داود عن ابن عباس "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير" فالنص المحرم متأخر، فالأخذ به يكون أولى، ويقول بعضهم: إن آية الأنعام خاصة ببهيمة الأنعام، لأنه تقدم قبلها حكاية عن الجاهلية أنهم كانوا يحرمون أشياء من الأزواج الثمانية بآرائهم، فنزلت الآية {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً} أي من المذكورات -الإبل والبقر والغنم والماعز ذكوراً وإناثاً- إلا الميتة منها والدم المسفوح، ولا يرد كون لحم الخنزير ذكر معها، لأنها قرنت به علة تحريمه، وهي كونه رجساً، فالآية أريد بها خصوص السبب، وليس عموم اللفظ، ويقول بعضهم: بأن الآية، وإن دلت على الحصر، فإنا نخصصها بالأخبار الصحيحة، لأنه لا معنى للحصر فيها إلا أن الأربعة محرمة، وما عداها ليس بمحرم، وهذا عام، وإثبات محرم آخر تخصيص لهذا العام، وتخصيص العام بخبر الواحد جائز.
وفي الجانب الآخر تمسك بظاهر الآية كثير من السلف، فأباحوا ما عدا المذكور فيها، حتى الحمر الأهلية، فقد أخرج البخاري عن عمرو بن دينار، قال: قلت لجابر بن عبد الله: إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس، وقرأ {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً .... } وسيأتي الكلام عن الحمر الإنسية قريباً من باب خاص.