من هذا الهدي الكريم، ومن هذا المبدأ الحكيم، يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يستغل الإنسان فرصة تضليل القضاء ليستولي على حق من حقوق المسلمين.
فمن قضي له بما ليس له فيه حق فإنما قضي له بقطعة من النار، فليأخذها أو ليدعها، ومن اقتطع حقا من حقوق المسلمين بيمين فاجرة ظالمة، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، ولا يستهين الظالم بحقارة ظلمه، فمعظم العذاب من محقرات الذنوب، كما أن معظم النار من مستصغر الشرر، وليحذر حق الغير وماله، ولو كان هذا الحق عودا صغيرا من شجر البوادي.
ولقد أنزل الله وعيدا شديدا لمثل هذا الآثم، حين اختصم الأشعث بن قيس ورجل من بني عمه في بئر في قطعة أرض، هي تحت يد ابن عمه، والأشعث يدعيها لنفسه، حيث كانت ملكا لأبيه، فسطا عليها ابن عمه، قال الأشعث: يا رسول الله، بيني وبين هذا الرجل أرض غلبني عليها وجحدني، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمه عن موقفه من هذه الدعوى. فقال الرجل: إنها أرضي، وتحت يدي، وأنا منذ زمن أزرعها، ولا حق له فيها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشعث: ما بينتك؟ وما شهودك على دعواك؟ قال: ليس عندي شهود. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذن يحلف خصمك فتسقط دعواك. قال: يا رسول الله، إن أرضي أعظم شأنا من أن يحلف عليها. قال: إن يمين المسلم يدرأ بها أعظم من ذلك، قال: يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يتورع عن الحلف زورا أو بهتانا، ولا يبالي على ما يحلف إن كان حقا أو باطلا.
قال: ليس لك منه إلا ذلك، قال: إذن يحلف ويذهب بمالي. فلما تهيأ الرجل ليحلف، وأخذ إلى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوقع اليمين هناك نزل قوله تعالى:{إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[آل عمران: ٧٧] فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه. وقال لهم: إن هو حلف كاذبا أدخله الله النار، فمن حلف على يمين يلزمه بها القضاء، وهو فيها كاذب فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله يوم القيامة وهو عنه معرض وهو عليه غضبان، ومن غضب الله عليه فهو من أهل النار، فذهبوا إليه قبل أن يحلف، وأخبروه الخبر: فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ماذا لي لو تركتها يا رسول الله؟ قال: الجنة. قال أشهدك أني قد تركتها له كلها، وتنازل الخصم للأشعث بأرض البئر وما حولها.
وهكذا كانت العظات تهز القلوب، وكان الإسلام إن تزعزع عند بعض الناس واهتز، لا يلبث أن يعود ويثبت. وكانت زينة الحياة الدنيا إذا غلبت على الحق أسرع الحق إلى الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
أما اليوم فما أكثر الحقوق الضائعة، وما أكثر الظالمين الباغين. {ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين}[الروم: ٥٢، النمل: ٨٠] فاللهم اجعلنا من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[الزمر: ١٨].