يكون ببلاد الحجاز شيء من الضباب، قال الحافظ ابن حجر: ولا يحتاج إلى شيء من هذا، بل المراد بقوله صلى الله عليه وسلم "بأرض قومي" قريشاً فقط، فيختص النفي بمكة وما حولها، ولا يمنع ذلك أن تكون موجودة بسائر بلاد الحجاز، قال الحافظ: وقد وقع في رواية يزيد بن الأصم عند مسلم [روايتنا الحادية عشرة]"دعانا عروس بالمدينة، فقرب إلينا ثلاثة عشر ضباً، فآكل وتارك" الحديث، فهذا يدل على كثرة وجودها بتلك الديار. اهـ وفي كلام الحافظ هذا نظر، فوجود مائة من الضباب على مائدة بالمدينة لا يلزم منه وجود ضب واحد في جحور أراضيها، فقد يكون مجلوباً من نجد، كما قدمت به حفيدة، وأما قصره النفي على مكة وما حولها فمنتقض بأن النبي صلى الله عليه وسلم عاش زمناً طويلاً في المدينة، وتنقل في غزواته في الجزيرة العربية، فالأولى أن يقال:"إن المعنى: لم يكن مألوفاً أكله بأرض قومي، أو ليس كثيراً بأرض قومي، وليس بلازم أن يكون متعلق الجار والمجرور "بأرض قومي" كوناً عاماً. وفي الرواية السادسة "كلوا. فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي" وفي الرواية الحادية عشرة "هذا لحم لم آكله قط"، ومعنى "أعافه" أكره أكله، وفي رواية "فتركهن النبي صلى الله عليه وسلم كالمتقذر لهن" وفي روايتنا العاشرة "فأكل من السمن والأقط، وترك الضب تقذراً".
(قال خالد: فاجتررته، فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر) يقال: اجتر الشيء إذا جذبه، أي فجذبته من الإناء، فأكلته، قال الحافظ ابن حجر: "فاجتررته" بجيم وراءين، هذا هو المعروف في كتب الحديث، وضبطه بعض شراح المهذب بزاي قبل الراء، وقد غلطه النووي. اهـ ويحتمل أنه غلطه رواية، فهو مقبول المعنى، يقال: جزر الشيء قطعه، أي فقطعته في الإناء، فأكلته.
وفي الرواية الثامنة "ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، فلم ينهني" ولا يلزم من هذا أن يكون خالد قد أكل كل الضباب المقدمة وحده، ففي الرواية الحادية عشرة "فأكل الفضل وخالد بن الوليد والمرأة، وقالت ميمونة: لا آكل من شيء إلا شيء يأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم" والمستثنى "إلا شيء" ضبطناه مجروراً، بدلاً من "شيء" المستثنى منه، ويجوز في غير الرواية نصبه على الاستثناء، فالكلام تام منفي. وواضح من الرواية من أكل من الحاضرين، ومفهومها أن عبد الله بن عباس وسعداً لم يأكلا أيضاً.
(دعانا عروس بالمدينة) يعني رجلاً تزوج قريباً، والعروس يقع على المرأة والرجل، والمراد بالمدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.
(فآكل وتارك) أي فبعض المدعوين آكل من الضب، وبعضهم تارك أكله.
(فأكثر القوم حوله) أي كثروا وتجمعوا حوله، أو أكثروا الخوض في حكم أكل الضب.
(فقال ابن عباس: بئسما قلتم) قال ابن العربي: ظن ابن عباس أن الذي أخبر بقوله صلى الله عليه وسلم "لا آكله" أراد "لا أحله" فأنكر عليه، لأن خروجه من قسم الحلال والحرام محال، قال الحافظ ابن حجر: وتعقبه شيخنا في شرح الترمذي بأن الشيء إذا لم يتضح إلحاقه بالحلال أو الحرام يكون من الشبهات، فيكون من حكم الشيء قبل ورود الشرع، والأصح -كما قال النووي- أنه لا يحكم عليها بحل ولا حرمة.