من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب، وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما، وحرموا كل ما يسكر نوعه، ولم يتوقفوا، ولم يستفصلوا، ولم يشكل عليهم شيء من ذلك، وقول الحنفية: إنهم كانوا قد سكروا بالفعل، فحرم لسكرهم، هذا القول لا ينفعهم، لأنه لو كان الأمر كذلك ما أراقوه، بل احتفظوا به ليشربوا منه قليلاً قليلاً، لكنهم لما فهموا التحريم نصاً لقليله وكثيره، أسكر أم لم يسكر بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم أدنى تردد لتوقفوا عن الإراقة، حتى يستكشفوا، ويستفصلوا، ويتحققوا التحريم، لما كان مقرراً عندهم من النهي عن إضاعة المال، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بإراقة خمورهم التي هي من غير عصير العنب، وجريانها في سكك المدينة فأقر ذلك، وأكد هذا المعنى بما ذكرنا من الأحاديث.
ومن أقوى ما يرد على الحنفية القياس، وهم أهل القياس، والمكثرون من اعتماده، والقياس هنا من أرفع أنواع القياس -كما يقول القرطبي- لمساواة الفرع فيه للأصل في جميع أوصافه، هذا على التسليم جدلاً بأن المسكر من غير عصير العنب ليس خمراً حقيقة، ولا يدخل في آية التحريم نصاً وأصلاً، والقياس إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة مشتركة بينهما.
قال أبو المظفر السمعاني: قياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار والاضطراب من أجل الأقيسة وأوضحها، والمفاسد التي توجد في الخمر توجد في النبيذ، ومن ذلك أن علة الإسكار في الخمر لكون قليله يدعو إلى كثيره موجودة في النبيذ، لأن السكر مطلوب على العموم، والنبيذ عندهم عند عدم الخمر يقوم مقام الخمر، لأن حصول الفرح والطرب موجود في كل منهما، وإن كان في النبيذ غلظ وكدرة، وفي الخمر رقة وصفاء، لكن الطبع يحتمل ذلك في النبيذ، لحصول السكر، كما تحتمل المرارة في الخمر، لطلب السكر، قال: وعلى الجملة فالنصوص المصرحة بتحريم كل مسكر، قل أو كثر، مغنية عن القياس. اهـ وعلى الجملة فالنصوص أن علة التحريم الإسكار، فاقتضى ذلك أن كل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناوله قليله وكثيره، وقال الحافظ ابن حجر: اتفق الإجماع على أن الخمر المتخذ من العنب يحرم قليله وكثيره، وعلى أن العلة في تحريم قليله كونه يدعو إلى تناول كثيره، لكن الحنفية فرقوا بينهما بدعوى المغايرة في الاسم، مع اتحاد العلة فيهما. اهـ
أما بعد، فإن العمل بمذهب الجمهور فيه حيطة، وبعد عن الشبهات، إن لم يكن بعداً عن المحرمات، فالعمل به إن لم ينفع لا يضر، فكثيراً ما يجتنب المسلم مباحات، دون أن يلحقه ضرر، أما العمل بمذهب الحنفية فأقل ما فيه التعرض لاحتمال الخطر، واحتمال الخطأ، والوقوع فيما حرم الله، فهو إن لم يضر لا ينفع. والله أعلم.
-[ويؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم: ]-
١ - من الرواية الأولى، ومن استعانة علي على وليمة فاطمة مشروعية اتخاذ الوليمة للعرس، سواء في ذلك من له مال كثير، ومن لا مال له.