كثبة من لبن، وقد جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة، على فمها خرقة، فصببت على اللبن [أي ماء من الإداوة] حتى برد أسفله، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوافقته قد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله. فشرب حتى رضيت، ثم قلت: قد آن الرحيل يا رسول الله؟ قال: بلى، فارتحلنا، والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم، غير سراقة بن مالك بن جعشم، على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله. فقال: لا تحزن. إن الله معنا" فظاهر هذه الرواية أن قصة الراعي واللبن كانت قبل قصة سراقة، ويؤكدها رواية أخرى للبخاري، وفيها بعد قصة اللبن "فارتحلنا بعد ما مالت الشمس، واتبعنا سراقة بن مالك ... " وهو الذي نميل إليه.
(فحلبت له كثبة من لبن) "الكثبة" بضم الكاف وإسكان الثاء، وهي الشيء القليل، والمراد هنا قيل: قدر قدح، وقيل: حلبة خفيفة، وهي في الأصل تطلق على القليل من الماء واللبن، وعلى الجرعة تبقى في الإناء، وعلى القليل من الطعام والشراب وغيرهما من كل مجتمع.
وظاهر الرواية أن أبا بكر باشر هنا الحلب بنفسه، لكن رواية البخاري السابقة تجعل الفعل هنا على المجاز، أي فأمرت أن يحلب له.
(فشرب حتى رضيت) أي شرب حتى علمت أنه شرب حاجته وكفايته.
(فاتبعه سراقة بن مالك بن جعشم) بضم الجيم وسكون العين، وكنيته أبو سفيان، ونسبه المدلجي، بضم الميم وسكون الدال، من بني مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة.
وقد ذكرت روايات البخاري سبب اتباعه وتفصيله، وفيها "عن سراقة قال: جاءنا رسل كفار قريش، يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، دية كل واحد منهما، لمن قتله أو أسره [أي يجعلون لمن يقتل واحداً منهما أو يأسره دية رجل، وهي مائة ناقة] فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، إذ أقبل رجل منهم، حتى قام علينا، ونحن جلوس، فقال: يا سراقة [وكان فارساً مشهوراً] إني قد رأيت آنفاً أسودة بالساحل [جمع سواد، أي أشخاصاً] أراها [أي أظنها] محمداً وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً، انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت، فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة، فتحبسها علي، وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت، حتى أتيت فرسي، فركبتها، فأسرعت بها، حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها: أضرهم؟ أم لا؟ فخرج الذي أكره [أي لا تضرهم] فركبت فرسي، وعصيت الأزلام، حتى سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها، فنهضت، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان [في رواية ابن إسحق: فناديت القوم: أنا سراقة بن مالك بن جعشم.
أنظروني أكلمكم، فوالله لا آتيكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه، وفي رواية "وأنا لكم نافع غير ضار، وإني لا أدري لعل الحي فزعوا لركوبي، وأنا راجع، ورادهم عنكم] فوقفوا، فركبت فرسي