منها في ذلك ما رواه مسلم بلفظ "ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن" لكن في رواية للبخاري ومسلم أن الإتيان بالإناءين كان في المعراج في السماء، ولفظ البخاري "ثم رفع لي البيت المعمور، ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل".
قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بين الاختلاف إما بحمل "ثم" على غير بابها من الترتيب، وإنما هي بمعنى الواو هنا، وإما بوقوع عرض الآنية مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة ببيت المقدس، وسببه ما وقع من العطش، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى.
كما أن روايتنا تفيد أن الذي عرض عليه إناءان. إناء من لبن، وإناء من خمر، وفي بعض روايات الصحيح ثلاثة بإضافة إناء من عسل، وفي حديث أبي سعيد عند ابن إسحق "فصلى بهم -يعني بالأنبياء- ثم أتي بثلاثة آنية، إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء، فأخذت اللبن".
قال الحافظ ابن حجر: وأما الاختلاف في عدد الآنية وما فيها، فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر، والزيادة من الثقة مقبولة، وذكر الاثنين لا ينافي الثلاثة، وذكر الثلاثة لا ينافي الأربعة، ومجموعها أربعة آنية، وفيها أربعة أشياء، من الأنهار الأربعة التي رآها تخرج من سدرة المنتهى، فعند الطبري، لما ذكر سدرة المنتهى يخرج من بينها أنهار من ماء غير آسن ومن لبن لم يتغير طعمه ومن خمر لذة للشاربين ومن عسل مصفى فلعله عرض عليه من كل نهر إناء، وفي حديث أبي هريرة عن ابن عائذ، بعد ذكر إبراهيم، قال:"ثم انطلقنا فإذا نحن بثلاثة آنية مغطاة، فقال جبريل: يا محمد، ألا تشرب مما سقاك ربك؟ فتناولت أحدها، فإذا هو عسل، فشربت منه قليلاً ثم تناولت الآخر، فإذا هو لبن، فشربت منه حتى رويت، فقال: ألا تشرب من الثالث؟ قلت: قد رويت. قال: وفقك الله".
(فنظر إليهما، فأخذ اللبن) قال النووي: ألهمه الله تعالى اختيار اللبن، لما أراده سبحانه وتعالى من توفيق هذه الأمة واللطف بها. اهـ قال ابن المنير: لم يذكر السر في عدوله عن العسل إلى اللبن، كما ذكر السر في عدوله عن الخمر، ولعل السر في ذلك كون اللبن أنفع، وبه يشتد العظم، وينبت اللحم، وهو بمجرده قوت، ولا يدخل في السرف بوجه، وهو أقرب إلى الزهد، ولا منافاة بينه وبين الورع بوجه، والعسل وإن كان حلالاً، لكنه من المستلذات التي قد يخشى على صاحبها أن يندرج في قوله تعالى:{أذهبتم طيباتكم}[الأحقاف: ٢٠] قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون السر في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان قد عطش، فآثر اللبن لما فيه من حصول حاجته، دون الخمر والعسل، فهذا هو السبب الأصلي في إيثار اللبن، وصادف مع ذلك رجحانه عليهما من عدة جهات. اهـ
(الحمد لله الذي هداك للفطرة) قال النووي: المراد بالفطرة هنا الإسلام والاستقامة، وجعل اللبن علامة على ذلك لكونه سهلاً طيباً، طاهراً سائغاً للشاربين، سليم العاقبة، وأما الخمر فإنها أم الخبائث، وجالبة لأنواع من الشر في الحال والمآل. اهـ