ويخطئ من يظن أن أحاديث الأكل والشرب واللباس والنوم، مما هو من الأعمال العادية البشرية لا تخضع للثواب والعقاب، وليست من التشريع في شيء.
وقد قمت بالرد على هذه الشبهات في بحث بعنوان: السنة كلها تشريع، حققت فيه أن هذه الأمور منها الواجب الذي يثاب على فعله ويعاقب على تركه، والمحرم الذي يثاب على تركه ويعاقب على فعله، من ذلك أكل الميتة وشرب الخمر وأكل الشره، ولبس الرجال للحرير والذهب، وستر العورة ونوم الصبي والصبية في لحاف واحد، ونحو ذلك. كيف لا تكون الأحاديث في ذلك تشريعاً؟ .
وحققت فيه أن هذه الأمور منها المندوب الذي يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه والمكروه الذي يثاب على تركه، ولا يعاقب على فعله.
بل حققت أن المباح في الأكل والشرب واللباس والنوم ونحوها مما هو عادة في الأصل يثاب عليه، لأن التزامه بعد عن الحرام، والحرام يثاب على تركه.
وهذه الأحاديث التي سنتعرض لها في هذا الباب وما بعده، فيها صلاح الدنيا والدين، صلاح الدنيا لأنها إرشادات تحفظ على المسلم صحته وأمنه، ليحيا حياة طيبة، وصلاح الدين، لأن التزامها، والعمل بها، اتباع لأوامر الدين، وهي بهذه الصفة عبادة وطاعة لله ورسوله.
ومن المعلوم أن المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن، أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، ومن المعلوم أن جبريل -عليه السلام- كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي بين الحين والحين، ومن المستحيل عقلاً وديناً أن ينزل الوحي الأمين، فيسكت على حكم لا يرضاه الله، أخبر به صلى الله عليه وسلم، وطلبه من أمته، والنتيجة الحتمية أن كل أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته هي تشريع من الله، بعد أن ينزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، فيقر ما قرره صلى الله عليه وسلم.
إن التعاليم التي سنعرض لها في هذا الباب منها ما هو أفضل وأولى، ومنها المندوب والمستحب، ومنها الواجب، وكلها يثاب على التزامها.
فتقديم الكبير عند الطعام والشراب اعتراف بفضله ومقامه، وتأدب من أصحابه معه، وانتفاع بخير ما عنده وما يتقدم به من سلوك، ونظام اجتماعي رفيع المستوى، لا يختلف عليه اثنان، يعبر عنه حذيفة رضي الله عنه بقوله: "كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً لم نضع أيدينا، حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضع يده".
أدب إسلامي، ومن قبل كان أدباً عربياً، إذ يقول الشاعر:
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
وذكر الله تعالى عند بداية الطعام، والاستعاذة من الشيطان الرجيم، وتسمية الله الرحمن الرحيم، استصحاب للعبادة في أشد أوقات شهوة البطن، مما يدل على أن المسلم لا يشغله شيء، عن عبادة الله، ويحصل له البركة في طعامه وشرابه، فيطيب به بدنه، وتهنأ به نفسه، وينطرد عنه الشيطان بوساوسه وكيده.