الركبان، وحتى يقال إن في مكان كذا رجلا أمينا، وترى الرجل فيعجبك منظره وقوته وذكاؤه، فإذا ما عاملته وجدته خائنا غير أمين.
إن الخيانة مرض ووباء ينتقل بالعدوى، وإذا كانت بعض المواطن الإسلامية اليوم لا تزال تحتفظ بقدر من الأمانة، فإن اتصالها بالخائنين سيؤدي بها عما قريب إلى رفعها، وإن من العجيب أن الأمانة ارتفعت بين المسلمين، بينما تمسك بها وحافظ عليها كثير من الكفار في عصرنا الحديث، حتى أصبح المسلمون صورة سيئة للإسلام، وما الأمانة المادية المالية إلا صورة من صور الأمانة المشروعة، التي تتمثل في أمانة الله لدى خلقه، فالعين أمانة، والأذن أمانة، واللسان أمانة، والتكاليف الشرعية أمانة، كل ذلك طلب صاحبها وخالقها أن يحافظ عليها، وأن توضع وتستعمل في مواضعها المشروعة، فمن خالف فقد ضيع الأمانة وإذا كان حذيفة رضي الله عنه وهو المتوفى سنة ست وثلاثين من الهجرة قد أسف على الأمانة ونعى على المسلمين ضياعها، فمن لها اليوم ينعاها ويبكي عليها؟ اللهم رحمتك وهدايتك وتوفيقك فليس لنا اليوم سواك.
-[المباحث العربية]-
(عن حذيفة) بن اليمان، ولاه عثمان على المدائن، وقتل عثمان وهو عليها، وبايع لعلي، وحرض على المبايعة له، والقيام في نصره ومات في أوائل خلافته، وحديثه هذا إنما ساقه - والله أعلم - بالمدائن وليس بالمدينة لكثرة الأمناء بها حينئذ من الصحابة والتابعين، وكانوا يتجرون فلا يصح أن يقال: إلا فلانا وفلانا.
(حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين) معناه: حدثنا حديثين في الأمانة وإلا فروايات حذيفة كثيرة في الصحيحين وغيرهما، قال صاحب التحرير: وعني بأحد الحديثين قوله: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، وبالثاني قوله: ثم حدثنا عن رفع الأمانة .... إلخ، وقيل: هذان حديث واحد، ولعل الثاني في حديث عرض الفتن الآتي في الباب التالي.
(فنزلت في جذر قلوب الرجال)"الجذر" بفتح الجيم وكسرها، الأصل في كل شيء، وذكر الرجال للتغليب، ونزولها في جذر قلوب الرجال كناية عن خلق الله تعالى في تلك القلوب قابلية التزام حفظها.
(فعلموا من القرآن وعلموا من السنة) في رواية البخاري "علموا من السنة" والمراد من السنة ما يتلقونه عن النبي صلى الله عليه وسلم واجبا كان أو مندوبا.
(ثم حدثنا عن رفع الأمانة) المراد برفع الأمانة إذهابها وحدها أو إذهاب الأمناء وقبضهم، بحيث يكون الأمين معدوما أو شبه معدوم. والأمانة ضد الخيانة، وقيل الفرائض والتكاليف، وسيأتي توضيح هذا البحث في فقه الحديث.