الحال، فإذا دخل مكان الطعام فأطفئي المصباح، كأن الهواء أطفأه، ثم أوقديه، ثم أطفئيه، فأقول لك: لا داعي للمصباح مادام الهواء لا يبقيه، ثم ضعي الطعام في الظلام بين يدي الضيف، ولنقعد مع الضيف أنا وأنت نمثل من يأكل ولا نأكل، حتى يشبع الضيف، وتم للأنصاري ما أراد، ونام هو وزوجته وأطفاله من غير عشاء، فلما أصبح ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الوحي قد نزل بأن الله قد عجب لحيلة الأنصاري مع ضيفه في هذه الليلة، وأنزل الله تعالى فيه:{ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}[الحشر: ٩].
وحادثة أخرى يحكيها المقداد بن الأسود، لقد ضاق به وبقومه الحال، حتى عاشوا يومين بل ثلاثة دون طعام، فآووا إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو واثنان من أصحابه، يختلون بواحد واحد من المصلين، يشكون له جوعهم، ويطلبون منه الطعام، فقد ضاعت أسماعهم وضعفت أبصارهم من الجوع، لكن فاقد الشيء لا يعطيه، كان كل واحد ممن عرضوا أنفسهم عليهم لا يملك الطعام لنفسه، فضلاً عن ضيفه، فلجئوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذهم إلى بيت من بيوت أمهات المؤمنين، وفيه ثلاثة أعنز، كان أحد الأنصار الأغنياء قد منحه إياها، ليحلب لبنها ويشربه أياماً، ثم يعيدها، فقال لهم: احتلبوا لبن هذه الأعنز كل ليلة، وقسموه بيني وبينكم، لكل ربعه، فكانوا يحلبون ويشرب كل منهم نصيبه ويحتفظون للنبي صلى الله عليه وسلم بنصيبه، حتى يعود بعد صلاة العشاء فيشربه، ووسوس الشيطان ذات ليلة للمقداد، وقد شرب نصيبه فلم يشبع، وطمع في شرب نصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له نفسه وشيطانه: محمد صلى الله عليه وسلم يعتز به الأنصار، ويتبركون باستضافته، ويتقربون بإكرامه، فلن يجوع إذا شربت نصيبه، فشرب نصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استقر اللبن في بطنه، وقضى الأمر، أخذ الشيطان يلومه، ويخوفه من فعلته، لا ليستغفر منها، ويندم عليها، ولكن ليوقعه في معصية أخرى، فزين له أن يعالج الخطأ بخطأ أكبر، يعالج ضياع جرعة اللبن التي فقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذبح العنز الذي تسقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله كل يوم، ثم هي ليست ملكاً له، ولا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي أمانة ومنيحة "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى مالك العنز عن ذبح الحلوب، فكيف بمن لا يملكها؟ كيف يذبحها؟ لكن للشيطان أساليبه، لقد غرر به أن ذبح العنز إنما هو من أجل إطعام الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سمعه يقول: اللهم أطعم من أطعمني" لكن العناية
الإلهية ردت كيد الشيطان، لقد ذهب يتحسس في الظلام أي الأعنز أسمن ليذبحها، وفي يده السكين، لكنه فوجئ بيده تلمس ضرعاً مليئاً باللبن، وتحسس العنز الأخرى فإذا ضرعها يكاد ينفجر من انتفاخه باللبن، ثم الثالثة كذلك. ضرع الأعنز مليء باللبن، ولم يمض على حلبها ساعات؟ إنها لأمر خارق للعادة، فليبحث عن إناء كبير يحلب فيه، ووجده وحلب حتى ملأه، ووصل زبد اللبن إلى حافته، وذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب، صلى الله عليه وسلم، ثم ناوله الإناء فشرب، ثم شرب، حتى أتى على اللبن كله، ثم استلقى على الأرض ضاحكاً، وفهم صلى الله عليه وسلم أن في الأمر سراً، فقال: إنك يا مقداد -لا محالة- فعلت فعلة فما هي؟ فقص عليه غواية الشيطان، فقال صلى الله عليه وسلم: إنها رحمة الله. أدركتك، وأدركتني، وقد كان عليك أن تخبرني قبل أن ينفد اللبن لنوقظ صاحبينا، فيشاركانا شربه. قال: يا رسول الله، لا يهمني أصحابي، بل لا تهمني الدنيا بعد أن حصلت على دعوتك، فأطعمتك وسقيتك.