وقال ابن دقيق العيد: ظاهر النهي التحريم، وهو قول الأئمة، واستقر الأمر عليه، وما نقل عن أبي بكر بن محمد بن حزم من تختمه بالذهب فشذوذ، والأشبه أنه لم تبلغه السنة فيه، فالناس بعده مجمعون على خلافه، وكذا ما روي فيه عن خباب، وقد قال له ابن مسعود:"أما آن لهذا الخاتم أن يلقى؟ فقال: إنك لن تراه على بعد اليوم" فكأنه ما كان بلغه النهي، فلما بلغه رجع. قال: وقد ذهب بعضهم إلى أن لبسه للرجال مكروه كراهة تنزيه، لا تحريم، كما قال مثل ذلك في الحرير. قال ابن دقيق العيد: هذا يقتضي إثبات الخلاف في التحريم، وهو يناقض القول بالإجماع على التحريم، ولا بد من اعتبار وصف كونه خاتماً. قال الحافظ ابن حجر: والتوفيق بين الكلامين ممكن، بأن يكون القائل بكراهة التنزيه انقرض، واستقر الإجماع بعده على التحريم، وقد جاء عن جماعة من الصحابة لبس خاتم الذهب، ومن ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن إسماعيل أنه رأى ذلك على سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وصهيب، وذكر ستة أو سبعة، وأخرج ابن أبي شيبة أيضاً عن حذيفة وعن جابر بن سمرة وعبد الله بن يزيد الخطمي نحوه، ومن طريق حمزة بن أبي أسيد "نزعنا من يدي أبي أسيد خاتماً من ذهب" وأغرب ما ورد من ذلك ما جاء عن البراء الذي روى النهي.
فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي السفر، قال:"رأيت على البراء خاتماً من ذهب" وأخرج أحمد من طريق محمد بن مالك قال: "رأيت على البراء خاتماً من ذهب، فقال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً، فألبسنيه، فقال: البس ما كساك الله ورسوله" قال الحازمي: إسناده ليس بذاك، ولو صح فهو منسوخ، قال الحافظ ابن حجر: لو ثبت النسخ عند البراء ما لبسه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي حديث النهي المتفق على صحته عنه، فالجمع بين روايته وفعله إما أن يكون حمله على التنزيه، أو فهم الخصوصية له من قوله "البس ما كساك الله ورسوله"، وهذا أولى من قول الحازمي: لعل البراء لم يبلغه النهي، ويؤيد أنه فهم الخصوصية ما جاء عند أحمد "كان الناس يقولون للبراء: لم تتختم بالذهب؟ وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيذكر لهم هذا الحديث، ثم يقول: كيف تأمرونني أن أضع ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البس ما كساك الله ورسوله؟ " اهـ.
هذا وأحاديث الباب -وبخاصة روايتنا الثانية- تؤكد تحريم خاتم الذهب على الرجال، أما إباحته للنساء فبالإجماع، وقد أخرج ابن أبي شيبة من حديث عائشة "أن النجاشي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حلية، فيها خاتم من الذهب، فأخذه، وإنه لمعرض عنه، ثم دعا أمامة، بنت ابنته، فقال: تحلى به".
-[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]-
١ - استدل به على تحريم الذهب على الرجال، قليله وكثيره، للنهي عن التختم، وهو قليل، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التحريم يتناول ما هو في قدر الخاتم وما فوقه، فأما ما هو دونه فلا دلالة من الحديث عليه.
٢ - تناول النهي عن لبس الخاتم جميع الأحوال، فلا تستثنى حالة الحرب أو الحكة، كما استثنيت في الحرير، لأنه لا علاقة له بالحرب، بخلاف ما على السيف أو الترس أو المنطقة، من حلية الذهب، فإنه لو فجأه الحرب جاز له الضرب بذلك السيف، فإذا انقضت الحرب لم يستعمله، لأنه والحالة هذه من متعلقات الحرب، بخلاف الخاتم.