وإلا فحديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخضب" أصح. قال الحافظ: كذا قال، والذي أبداه احتمالاً قد تقدم معناه موصولاً إلى أنس، وأنه جزم بأنه إنما احمر من الطيب، وجمع الطبري بقوله: من جزم بأنه خضب، كما في ظاهر حديث أم سلمة حكى ما شاهده، وكان ذلك في بعض الأحيان، ومن نفى ذلك كأنس فهو محمول على الأكثر الأغلب من حاله. والله أعلم.
وقد نقل عن أحمد: أن الخضب واجب، وعنه أنه يجب ولو مرة في العمر، وعنه: لا أحب لأحد ترك الخضب، ويتشبه بأهل الكتاب.
وفي الرواية الثانية أمر باجتناب السواد، ولهذا جنح النووي إلى أنه مكروه كراهة تحريم، وهو رأي لبعض العلماء، وقول لأحمد، وقد يستند لهم بما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان من حديث ابن عباس مرفوعاً "يكون قوم في آخر الزمان، يخضبون بالسواد، لا يجدون ريح الجنة" وإسناده قوي، إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وعلى تقدير ترجيح وقفه، فمثله لا يقال بالرأي، فحكمه حكم الرفع، كما يستند لهم بما أخرجه الطبراني وابن أبي عاصم، من حديث أبي الدرداء، رفعه "من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة".
ومن العلماء، من رخص في الخضاب بالسواد مطلقاً، ومن السلف سعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر والحسن والحسين وجرير وغيرهم، واختاره ابن أبي عاصم في "كتاب الخضاب" وأجاب عن حديث جابر -روايتنا الثانية- بأنه في حق من صار شيب رأسه مستبشعاً، ولا يطرد في حق كل أحد، وأجاب عن حديث ابن عباس السابق، بأنه لا دلالة فيه على كراهة الخضاب بالسواد، بل فيه الإخبار عن قوم، هذه صفتهم، وحديث أبي الدرداء إسناده لين عند المحدثين، ويشهد لقول ابن أبي عاصم ما أخرجه هو عن ابن شهاب قال:"كنا نخضب بالسواد إذا كان الوجه جديداً، فلما نغض الوجه والأسنان تركناه".
ومن العلماء من رخص فيه في الجهاد، ومنهم من رخص فيه للمرأة، دون الرجل، ومنهم من منعه إذا قصد به التدليس.
والذي أميل إليه، بعد هذه الجولة أن صبغة الشعر للرأس واللحية تخضع للعرف والعادة، وطلب مخالفة اليهود والنصارى دليل على أن الباعث على الأمر بها كان للعادة، وتكوين شخصية إسلامية، في وقت خاص، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، وفي وقت، ثم صار يحب مخالفتهم، حتى في الصورة في وقت آخر، ولهذا رأينا بعض الصحابة يستحبها، وبعضهم يكرهها، ولا يعيب هذا على ذاك، أما خضب اليدين والرجلين، فلا يجوز للرجال إلا للتداوي.