للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقد تكلم العلماء على الحكمة فيمن شرع لهم الابتداء، فقال المهلب: تسليم الصغير لأجل حق الكبير، لأنه أمر بتوقيره، والتواضع له، وتسليم القليل لأجل حق الكثير، لأن حقهم أعظم، وتسليم المار -راكباً أو ماشياً- لشبهه بالداخل على أهل المنزل، وتسليم الراكب لئلا يتكبر بركوبه، فيرجع إلى التواضع، وقال ابن العربي: حاصل ما في هذا الحديث أن المفضول بنوع ما يبدأ الفاضل. اهـ ولا يتأتى هذا في الراكب والماشي.

وقال المازري: أما أمر الراكب، فلأنه له مزية على الماشي، بأن يبدأه الراكب بالسلام، احتياطاً على الراكب من الزهو، أن لو حاز الفضيلتين، وأما الماشي فلما يتوقع القاعد منه من الشر، ولا سيما إذا كان راكباً، فإذا ابتدأه بالسلام أمن منه ذلك، وأنس إليه، أو لأن في التصرف في الحاجات امتهاناً، فصار للقاعد مزية، فأمر بالابتداء، أو لأن القاعد يشق عليه مراعاة المارين، مع كثرتهم، فسقطت البداءة عنه للمشقة، بخلاف المار، فلا مشقة عليه، وأما القليل فلفضيلة الجماعة، أو لأن الجماعة لو ابتدءوا لخيف على الواحد الزهو، فاحتيط له.

قال المازري وغيره: هذه المناسبات لا يعترض عليها بجزئيات تخالفها، لأنها لم تنصب نصب العلل الواجبة الاعتبار، حتى لا يجوز أن يعدل عنها، حتى لو ابتدأ الماشي، فسلم على الراكب لم يمتنع، لأنه ممتثل للأمر بإفشاء السلام وإظهاره، غير أن مراعاة ما ثبت في الحديث أولى، ويستحب ولا يلزم من ترك المستحب الكراهة، بل يكون خلاف الأولى، فلو ترك المأمور بالابتداء، فبدأه الآخر، كان المأمور تاركاً للمستحب، والآخر فاعلاً للسنة، إلا إن بادر، فيكون تاركاً للمستحب أيضاً، وقال المتولي: لو خالف الراكب، أو الماشي ما دل عليه الخبر كره، قال: والوراء يبدأ بكل حال، وقال الكرماني: لو جاء في الحديث أن الكبير يبدأ الصغير، والكثير يبدأ القليل لكان مناسباً، لأن الغالب أن الصغير يخاف من الكبير، والقليل يخاف من الكثير، فإذا بدأ الكبير أمن الصغير، وإذا بدأ الكثير أمن القليل، لكن لما كان من شأن المسلمين أن يأمن بعضهم بعضاً اعتبر جانب التواضع. اهـ وخلاصة القول إن الحكمة في هذا الترتيب متلمسة، ولغير هذا الترتيب حكم تتلمس، وللمشرع حكمته التي قد لا نعلمها، فالاتباع أولى.

وهناك صور لم يتعرض لها المشرع، منها:

(أ) إذا تلاقى ماران، راكبان، أو ماشيان؟ قال المازري: يبدأ الأدنى منهما الأعلى قدراً في الدين، إجلالاً لفضله، لأن فضيلة الدين مرغب فيها في الشرع، وعلى هذا لو التقى راكبان، ومركوب أحدهما أعلى من مركوب الآخر، كالجمل والفرس، فيبدأ راكب الفرس؟ أو ينظر إلى أعلاهما قدراً في الدين، فيبدؤه الذي هو دونه؟ هذا الثاني أظهر، لكن لا نظر إلى من يكون أعلاهما قدراً من جهة الدنيا، كموظف ومديره، إلا أن يكون سلطاناً أو نحوه يخشى بأسه.

(ب) إذا تعارضت جهات طلب البدء، كأن يكون المشاة كثيرا، والقعود قليلا؟ قيل: يرجح جانب المشاة، وقيل: إذا تعارضا تساقطا، ويقدر أنهم في حكم اثنين متساويين التقيا.

(جـ) إذا تعارض الصغر المعنوي بالصغر الحسي، كأن يكون الأصغر سناً أعلم، أو أتقى،

<<  <  ج: ص:  >  >>