في تلو تاليه "فرأى" والفرجة بضم الفاء وفتحها، هي الخلل بين الشيئين، ويقال لها أيضاً: فرج بفتح الفاء وسكون الراء، وجمعه فروج وهي الشق بين الشيئين، ومنه قوله تعالى:{وما لها من فروج}[ق: ٦] وأما الفرجة بمعنى الخلاص من الغم فذكر الأزهري فيها فتح الفاء وضمها وكسرها، يقال: فرج بين الشيئين، وفرج له في الحلقة والصف، بفتح الفاء والراء، يفرج بكسر الراء وضمها، فرجا بسكونها، أي شق، وفرج الشيء، بتشديد الراء وسعه، وأفرج الغبار انكشف، وأفرج عن السجين أطلقه، وانفرج الشيء اتسع، وانفرج ما بين الشيئين، وانفرج الغم، وأما الحلقة بإسكان اللام، وحكي فتحها، والجمع حلق بفتحتين.
(وأما الآخر فجلس خلفهم) الآخر أي الثاني، وفيه رد على من زعم أنه يختص بالأخير.
(وأما الثالث فأدبر ذاهباً) إن أريد من الإدبار الذهاب كان "ذاهباً" حالاً مؤكدة، وإن أريد من الإدبار الإعراض كانت حالاً مؤسسة، وقيل، معنى "ذاهباً" مستمراً في ذهابه، فتكون حالاً مؤسسة أيضاً.
(فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم) من عظته ودرسه.
(ألا أخبركم عن النفر الثلاثة)"ألا" هي همزة الاستفهام الإنكاري، بمعنى النفي، دخلت على "لا" النافية، ونفي النفي إثبات، فالمعنى أخبركم عن النفر الثلاثة، وفائدتها على هذا التنبيه إلى أهمية ما بعدها، وفي الكلام مضاف محذوف، أي عن أحوال النفر الثلاثة.
(أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله) قال القرطبي: الرواية الصحيحة بقصر الأول، ومد الثاني، وهو المشهور في اللغة، قال النووي: وهي اللغة الفصيحة، وبها جاء القرآن، أي إذا كان لازماً كان مقصوراً، وإذا كان متعدياً كان ممدوداً، قال تعالى:{أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة}[الكهف: ٦٣] وقال تعالى: {إذ أوى الفتية إلى الكهف}[الكهف: ١٠] وقال في المتعدي {وءاويناهما إلى ربوة}[المؤمنون: ٥٠] وقال {ألم يجدك يتيماً فآوى}[الضحى: ٦] قال القاضي: وحكى بعض أهل اللغة فيهما جميعاً لغتين، القصر والمد، فيقال: أويت إلى الرجل، بالقصر والمد، وآويت الرجل بالمد والقصر، والمشهور التفرقة كما سبق.
قال العلماء: معنى "أوى إلى الله" لجأ إلى الله، قيل: في الكلام مضافان محذوفان، أي لجأ وانضم إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى "فآواه الله" أي جازاه بنظير فعله، بأن ضمه إلى رحمته ورضوانه.
(وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه) أي ترك المزاحمة، كما فعل رفيقه الذي جلس في الفرجة، حياء من الله تعالى، ومن النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه، أو استحيا من الذهاب عن المجلس، كما فعل رفيقه الذي مضى ذاهباً، ويرجحه رواية أنس، ولفظها عند الحاكم "ومضى الثاني قليلاً، ثم جاء، فجلس" ومعنى "فاستحيا الله منه" أي رحمه، ولم يعذبه، بل غفر ذنوبه، وقيل: جازاه بالثواب، قالوا: ولم يلحقه بدرجة صاحبه الأول في الفضيلة، الذي آواه، وبسط له اللطف، وقربه.
(وأما الآخر فأعرض، فأعرض الله عنه) أعرض عن مجلس العلم، وانصرف عنه، فعامله الله