للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قبل الأسماء كلها، فجاع وشبع، وعطش وشرب، وطهى طعامه على النار، والتقط فواكه من ثمار الشجر، ومرض فعالج نفسه بما تيسر له، وما ألهمه من نبات الأرض، وتبعه أبناؤه، يعتمدون على التجارب كثيراً، ويلهمون سبل الحياة أحياناً، وتتعلم الأجيال اللاحقة من الأجيال السابقة، ويترقى كل جيل على من سبقه بالعلم والخبرة، ويبني حضارة فوق حضارة، ويتغلب على مصاعب الحياة بأسلوب بعد أسلوب، حتى يصل إلى درجة عليا من العلم والطب والفن في بعض المناطق، كالفراعنة في مصر، والحضارات القديمة في الصين والهند ومأرب وغيرها.

لكن إرادة الله شاءت لأهل الأرض أطواراً، كحياة الإنسان نفسه، ضعف، ثم من بعد ضعف قوة، ثم من بعد قوة ضعفاً وشيبة، قامت الحضارات ثم ضعفت، ثم اندثرت، وجاء الإسلام في بيئة لم تشهد الحضارة منذ زمن بعيد، فكان طعام وشراب ولباس ومسكن وأمراض وأدوية هذه البيئة في صورة بدائية، بدوية، كانت الأمراض المعهودة ضغط الدم وفورانه، فعالجوه بشرطة محجم، تشق الجلد، فيسيل بعض الدم، في أي جزء من أجزاء الجسم، أو بفصد عرق لينزل منه قدر من الدم، ثم يحبس بتراب حصير محروق، أو بطحين بن محروق أو بتسخين حديدة على النار، ثم يكوى بها مكان القطع، فيتوقف الدم. وكان من الأمراض المنتشرة الإسهال وآلام البطن، وعسر الهضم، فعالجوه بشرب العسل، وكان منها ذات الجنب والمغص الناشئ عن تجميع الغازات وعدم انصرافها، فعالجوه بالحبة السوداء أو الكمون أو الينسون، يغلي فيشرب ماؤه المنقوع، وكانت الجروح نتيجة المعارك وغيرها، تورم وتفسد، والدمل يخرج في الجسم ويتكاثر، فعالجوها بالرقى وبعض العقاقير وبالماء، وكان المريض كأي مريض يكره الدواء، ولا يستسيغه، كان يلد، يفتح فمه، على الرغم منه، ثم يصب الدواء المر أو الحامض في جانب من حلقه، ثم يدفع إلى الداخل بالملعقة أو الإصبع، فيبتلعه رغم أنفه، وكان مرضى التهاب الحلق واللوز، المعروف باسم الإنفلونزا، تتورم اللهاة، وتتقيح الغدة، وتلتهب وتحتقن فتحة الحلق، وتسد مداخل الأنف بالبلغم، فعالجوه بالسعوط، وإدخال الدواء من فتحتي الأنف إلى الحلق، وكانت العين والحسد والسموم والسحر، وعولجت بالرقى وغيرها، وسبقت في الباب السابق، وكانت الطيرة والطاعون والكهانة والعدوى والجذام، وسيأتي الكلام عنها في الأبواب اللاحقة.

أمراض في بيئة، علاجها المتوارث من البيئة، فما نصيب الرسالة المحمدية في هذه التركة؟ إن محمداً صلى الله عليه وسلم هو المستشار الوحيد فيما وما يجد، وقوله فصل لا مرد له، حتى في أمورهم الخاصة، عملاً بقوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء: ٦٥] إن رؤياه وحي، وإلهامه وحي، وجبريل ينزل بين الحين والحين، وقد أوحي إليه أن الشاة التي مد يده إليها مسمومة، فرفع يده عنها، وأمر أصحابه بعدم تناولها، فهل يتصور أن يصف لمريض دواء يضره فلا يوحى إليه بدفع الضرر عن الناس الذين أشار عليهم به؟ لقد قال لهم: "إن الله أنزل لكل داء دواء، فتداووا، أيها الناس، ولا تتداووا بمحرم" وقال لهم: "إن كان في أدويتكم خير -وشفاء- ففي شرطة محجم أو شربة عسل، أو لذعة بنار" وأمر الحجام أن يحجم زوجته أم سلمة رضي الله عنها، وأمر أحد أصحابه أن يكوي جريحاً، وقام بنفسه بكي أحد الصحابة، وقال "الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء" وقال: "عليكم بالعود الهندي، فإن

<<  <  ج: ص:  >  >>