إن العرب قبل الإسلام كانوا إذا مسهم الضر في البحر، ضل من يدعون إلا إياه، فلما ينجيهم إلى البر يكفرون، وإن فرعون وقومه لما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك، لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل، فلما كشف عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون.
جاء الإسلام حريصاً على أن يربط العبد بربه في السراء والضراء، وأن يؤكد له أن المرض والشفاء بيد الله، وأن الأسباب إنما هي من الله، ونتائجها بقدر الله، فلا يعتمدوا الأسباب وحدها، ولا يتواكلوا ويبعدوا عن اتخاذها بل عليهم أن يتداووا، ثم يتوكلوا على الله ويدعوه، كما جاء في حديث "اعقلها وتوكل" عليهم أن لا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، وأن يحذروا مواطن الضرر، وأن يفوضوا مع ذلك نتائج الأمور كلها إلى الله.
كانت الجرعة التي سقاهم إياها الإسلام، ليسندوا الأشياء إلى الله كبيرة "لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر""من أعدى الأول"؟ "يدخل الجنة سبعون ألف بغير حساب، لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون" فغلب كثير من السابقين جانب التوكل، والتفويض إلى قدر الله، على جانب الحذر والحيطة والأخذ بالأسباب، وغلب الآخرون الجانب الآخر.
ظهر هذان الاتجاهان حين خرج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام لزيارتها، بعد أن فتحها جند الإسلام، وقسمت إمارات: الأردن وحمص، ودمشق، وفلسطين، وإجنادين، وأمر عليها أبا عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة.
خرج الأمراء ووجهاء البلاد لاستقبال أمير المؤمنين خارج البلاد، في مدينة تسمى "سرغ" وكان وباء الطاعون قد انتشر كالنار في الهشيم، بين الناس في الشام، فأخبر أمراء الشام أمير المؤمنين بذلك، ونصحه بعضهم بالعودة إلى المدينة وعدم دخول الشام، هو ومن معه من صفوة الصحابة وسابقيهم من مهاجرين وأنصار، خوفاً عليهم من العدوى، وحذراً من الإلقاء بهم إلى التهلكة، وأشار عليه آخرون بالدخول، وإنجاز ما قدم لأجله، والتوكل على الله فكل شيء بأمره وقدره.
وضرب عمر المثل في الشورى، فلم يقطع برأي، ونادى عبد الله بن عباس، وأمره أن يدعو إليه المهاجرين الأولين، فدعاهم إليه، فاستشارهم في الأمر، فأشار بعضهم بعدم الدخول، وأشار بعضهم بالدخول، فأغضب عمر اختلافهم، فصرفهم، وأمر ابن عباس أن يدعو إليه الأنصار، فدعاهم إليه، فاستشارهم، فاختلفوا كما اختلف المهاجرون، قال بعضهم: قد جئت لأمر، فلا ترجع عنه وامض لما جئت به، وادخل، وتوكل على الله، وقال بعضهم: إن معك خيرة الصحابة وكبارهم، فلا تعرضهم للوباء، ولا تدخل بهم عليه، فازداد عمر غضباً لاختلافهم، فصرفهم، وأمر ابن عباس أن يدعو إليه كبار قريش الذين أسلموا حديثاً، عند فتح مكة، فدعاهم إليه، فاستشارهم، فأجمعوا جميعاً على الرجوع، لم يشذ منهم أحد، فقرر عمر رضي الله عنه الرجوع بمن جاء معه، وأمر المنادي أن ينادي في الناس: إن أمير المؤمنين قد عزم على العودة إلى المدينة في الصباح، فاستعدوا للسفر، وكان أبو عبيدة قد رجح عنده أن الدخول أفضل، فقال لعمر: أترجع خوفاً من الوباء؟ وفراراً من قدر الله؟ وكان عمر قوياً في الحق، حازماً في اتخاذ القرار، لا يحب أن يخالفه أحد، فأجاب بشدة: لو غيرك قال هذا يا أبا عبيدة لأدبته،