للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وهذا الذي قاله الحافظ ابن حجر -رحمه الله- غير مقبول، وما استدل به مردود معارض، والجن المشهور اصطلاحاً بأنه خلق من خلق الله، وجنس من مخلوقاته كالإنس، وأنه يرانا من حيث لا نراه، وأنه يعيش معنا، وعلى أرضنا، لا سلطان له علينا إلا بالوسوسة، وصدق الله العظيم إذ يقول {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} [إبراهيم: ٢٢] ولو أن للجن أن يطعن الإنس بغير سلاح لكتموا أنفاس بني آدم جميعاً في لحظات، ولو أن للجن قدرة على طعن الإنس لطعن في أصعب الفصول كأعدلها، وفي أفسد البلاد هواء كأصحها، وفي أخبث الماء كأطيبه، إذ لا فرق عنده، ولدام في الأرض بدوام عبث الجن وإفساده، ولعم الناس والحيوان، لأن الجن إذا قدروا على طعن الإنسان قدروا على طعن الحيوان، وعلى طعن الإنسان في كل مكان لا مكان دون مكان، فكل ما قاله الحافظ كدليل، لا ينتج الدعوى، ولا يفيد في الاستدلال، ولو أنه حين ردد أسباباً للمرض غير معقولة، وغير منتجة رد ذلك كله إلى قدرة الله تعالى لكان خيراً.

ثم إن الحديث الذي حاول الحافظ تصحيحه غير صحيح ولا يعمل بمثله في العقائد، وعلى فرض صحته فالجن في اللغة كل ما استتر، والميكروب أو الفيروس مخلوقات خفية، لا ترى بالعين المجردة، وهي في الطب والعقل والإدراك هي سبب الآلام والوخز، وكون الوباء ينتشر في الكثيرين له أسبابه المعروفة بالعدوى، وكونه يصيب شخصاً ولا يصيب من بجواره له تعليله الطبي والعقلي وسيأتي مزيد لهذه المسألة عند الكلام على أنه عذاب من عند الله، وأنه لا يدخل إليه خارج عنه، ولا يخرج عنه من هو داخل فيه.

(الطاعون رجز -أو عذاب- أرسل على بني إسرائيل -أو على من كان قبلكم) الرجز، ووقع "رجس" بالسين، وبالزاي هو المعروف، وهو العذاب، وبالسين هو الخبيث أو النجس أو القذر، وجزم الفارابي والجوهري بأنه بالسين يطلق على العذاب أيضاً، ومنه قوله تعالى {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} [الأنعام: ١٢٥] وحكاه الراغب أيضاً، والرواية هنا على الشك من الراوي فيما سمع، هل سمع لفظ "رجز" أو لفظ "عذاب" وفي الرواية الثالثة "إن هذا الطاعون رجز" بدون شك، وفي الرواية الثانية "الطاعون آية الرجز" أي علامة العذاب، على معنى أن آلامه والموت به عذاب على العاصين، والمرض نفسه علامة على هذا الألم، ففي الرواية الخامسة "إن هذا الوجع أو السقم رجز".

والرواية هنا "أرسل على بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم" بالشك من الراوي، وبنو إسرائيل كانوا قبلنا، لكنهم بعض من كان قبلنا، فالتنصيص على بني إسرائيل أخص، والمراد أيضاً بعض بني إسرائيل، لا كلهم، ففي الرواية الرابعة "أرسله الله على طائفة من بني إسرائيل" وفي الرواية الخامسة "عذب به بعض الأمم قبلكم" أي بعض أمة من الأمم قبلكم "ثم بقي بعد" أي بعد هذا الابتلاء، أي بقي ميكروبه غير مصيب ومؤثر على أحد، أو بقي أمره والابتلاء به متوقعاً بأهل الأرض "فيذهب" كوباء من الأرض "المرة، ويأتي" كوباء "الأخرى" والظاهر أن المراد بقاء ميكروبه، ففي الرواية السادسة "إن هذا الوجع رجز، أو عذاب، أو بقية عذاب، عذب به أناس من قبلكم" ويرى بعض العلماء أن الإشارة إلى من قبلنا من غير بني إسرائيل إشارة إلى ما وقع في قوم فرعون، أيام موسى

<<  <  ج: ص:  >  >>