يخرج من الأرض التي نزل بها الطاعون، لئلا يقول إذا خرج ونجا: لو أقمت بها لأصابني ما أصاب أهلها، مع أنه لو أقام بها ربما لم يصبه المرض، فالمنع من الخروج لئلا ينجرف إلى اعتماد الأسباب العادية، وينسى أو يقلل من تقدير الله، ويؤيد هذا التعليل ما أخرجه الهيثم بن كليب والطحاوي والبيهقي بسند حسن، عن أبي موسى أنه قال:"إن هذا الطاعون قد وقع، فمن أراد أن يتنزه عنه فليفعل، واحذروا اثنتين: أن يقول قائل: خرج خارج فسلم، وجلس جالس فأصيب، فلو كنت خرجت لسلمت، كما سلم فلان، أو لو كنت جلست لأصبت، كما أصيب فلان".
والنهي عن القدوم على الطاعون في بلده مطلق، سواء كان له بهذه البلد حاجة، أو لم يكن، لذا سنجد عمر رضي الله عنه يمتنع عن الدخول، مع أن له به حاجة، أما النهي عن الخروج فقيد بأن يكون السبب والدافع للخروج الفرار من الوباء، فإن كانت هناك حاجة إلى الخروج غير الفرار فلا يدخل في النهي، فالصور ثلاث: الخروج قصد الفرار محضاً، فهذا يتناوله النهي لا محالة، والخروج للحاجة محضاً لا يشوبها قصد فرار، والخروج للحاجة والفرار. وسيأتي الكلام عن ذلك في فقه الحديث.
ووقع في آخر الرواية الأولى "وقال أبو النضر: لا يخرجكم إلا فرار منه" فالرواية الأولى رواية محمد بن المنكدر، ولا إشكال فيها، والرواية الثانية رواية أبي النضر، وقد رويت برفع "فرار" ونصبها في روايات البخاري قال النووي: وقع في بعض النسخ -نسخ مسلم- "فرار" بالرفع وفي بعضها "فراراً" بالنصب، وكلاهما مشكل من حيث العربية والمعنى، وقال ابن عبد البر: أهل العربية يقولون: دخول "إلا" هنا، بعد النفي لإيجاب بعض ما نفي قبل من الخروج، فإنه نهي عن الخروج إلا للفرار خاصة، وهو ضد المقصود، فإن المنهي عنه إنما هو الخروج للفرار خاصة، لا لغيره، وقال الكرماني: الجمع بين قول ابن المنكدر "لا تخرجوا فراراً منه" وبين قول أبي النضر "لا يخرجكم إلا فراراً منه" مشكل، فإن ظاهره التناقض، وقد حاول الجمع بما لا يسلم، كما حاول غيره، بأن جعل "إلا" حالاً من الاستثناء، أي لا تخرجوا إذا لم يكن خروجكم إلا للفرار، وكما حاول القاضي عياض، باللجوء إلى رواية الموطأ "لا يخرجكم إلا فراراً" بأداة التعريف، وبعدها "إفرار" بكسر الهمزة، قال: وهو وهم ولحن، وحاول تبرير رواية الموطأ في مكان آخر، فقال: يجوز أن تكون الهمزة للتعدية، يقال: أفره كذا من كذا، أي لا يخرجكم إفراره إياكم. قال القرطبي في المفهم: هذه الرواية غلط، لأنه لا يقال: أفر، وإنما يقال: فرر. اهـ
والذي نستريح إليه ما قاله جماعة من العلماء، من أن إدخال "إلا" في هذه الرواية غلط، أو ما قاله بعضهم من أن "إلا" زائدة، عند من يجيز زيادتها. والله أعلم.
(كنا بالمدينة، فبلغني أن الطاعون قد وقع بالكوفة) سيأتي قريباً استعراض ما قيل في الطواعين التي وقعت في صدر الإسلام، قال النووي: وكان بالكوفة طاعون سنة خمسين، وهو الذي مات فيه المغيرة بن شعبة.
(أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام) سنة ثماني عشرة، وقيل سبع عشرة.
(حتى إذا كان بسرغ) بفتح السين، وسكون الراء بعدها غين، وحكى القاضي وغيره أيضاً فتح