صدق الله العظيم، إذ يقول {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}[التوبة: ١٢٨].
نعم كل نبي يحرص على إجابة قومه لدعوته لمصلحتهم، ويبذل في سبيل ذلك جهده، ويتحمل من مكذبيهم وسفهائهم قدر الطاقة، لكن من الرسل من ضاق ذرعه بعصيانهم، ومنهم أولوا العزم الذين طال صبرهم، وعظم بلاؤهم، وعلى رأسهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
قد ينفد الصبر، فيدعو الرسول على العاصين، وقد يتمكن من أعدائه فينتقم منهم، بحكم الطبيعة البشرية، أما أن يقابل السيئة بالحسنة في عامة أحواله فهذه هي الخصوصية.
يذهب إلى الطائف، يدعو أهله، لصالحهم، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، فيسخرون منه، ويهزءون به، ويغرون به سفهاءهم وصبيانهم يجرون خلفه، يسبونه ويقذفونه بالحجارة، حتى أدموا قدميه، ولما تعبوا رجعوا، فاستند إلى سور حديقة مجهدا متعبا مغتاظا، فينزل عليه ملك الجبال يعرض عليه أن يطبق عليهم الجبال، فيقول: لا. اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون.
يغتال وحشي الكافر أعز أعمامه، أسد الله حمزة بن عبد المطلب، وتبقر هند زوجة أبي سفيان بطنه، وتخرج كبده، تلوكها في فمها، فيقدر عليهما، فيعفو عنهما. يفتح مكة، فيمكنه الله ممن آذوه وآذوا أصحابه، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، فيقول لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فيقولون أخ كريم وابن أخ كريم، فيقول لهم: لا أقول لكم إلا كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم. اذهبوا فأنتم الطلقاء.
يذهب إليه أعرابي، يطلب إحسانه من بيت المال، فيمسك بخناق ثوبه، ويجذبه منه حتى يؤثر الثوب في رقبته، وهو يقول: يا محمد، أعطني من مال الله الذي عندك، فإنه ليس من مالك ولا من مال أبيك، ويثور عمر، فيجرد سيفه، ويقول لرسول صلى الله عليه وسلم: دعني أدق عنق هذا المنافق، فيمنعه صلى الله عليه وسلم، ويدخل إلى بيت المال، فيخرج له ما شاء الله، ثم يقول له: أأحسنت؟ فيقول الأعرابي: ما أحسنت وما أجزلت. فيثور عمر ثانية، فيمنعه صلى الله عليه وسلم، ويدخل، فيزيد الرجل، ثم يقول له: أأحسنت؟ فيقول له: لا، ما أحسنت وما أجزلت، ويثور عمر حتى لا يكاد يملك نفسه فيمنعه صلى الله عليه وسلم، ويدخل، فيزيد الرجل، ويقول صلى الله عليه وسلم: إن مثلي ومثلكم ومثل هذا كرجل شردت ناقته، فجرى الناس خلفها، يمسكونها، فكلما رأتهم يطاردونها زادت شرودا، فقال لهم صاحبها: خلوا بيني وبين ناقتي، ثم أخذ في يده شيئا من حشيش الأرض، وتقرب به إليها، فجاءت وبركت واستناخت. صلى الله عليه وسلم {بالمؤمنين رءوف رحيم} منع العصاة أن يقعوا في النار، يبذل جهده الخارق في الحيلولة بينهم وبين المعاصي، لكن كثيرا منهم، تغلبهم شهوتهم ونفسهم الأمارة بالسوء، فينهمكون في الشهوات، فيقعون في نار الآخرة، كالفراش الجاهل الذي يحارب النار بالوقوع فيها، ولقد كانت رسالته صلى الله عليه وسلم خاتمة الرسالات، وقمتها، فكل نبي جاء بشرع، أصلح الإنسانية بعض الإصلاح، فكان الأنبياء السابقون كمن يبني جزءا من بيت، حتى كاد يكتمل