البناء، إلا زاوية من زواياه، لو بنيت لاكتمل، فكان صلى الله عليه وسلم ممثلا في البناء هذه الزاوية، محققا تمام البناء، واكتمال الشرائع، ووصول البشرية إلى أرقى عباداتها وصلاحها، بما جاء به من شرع حكيم، صالح لكل زمان ومكان إلى يوم الدين.
-[المباحث العربية]-
(إن مثلي ومثل ما بعثني الله به) بفتح الميم والثاء، والمثل الصفة العجيبة الشأن، يوردها البليغ، على سبيل التشبيه، لإرادة التقريب والتفهيم.
(كمثل رجل أتى قومه) في رواية للبخاري "أتى قوما" والتنكير فيه للشيوع، وروايتنا أوضح، لأن قومه هم الأولى بقبول خبره، ولأنهم الذين يحرص عليهم بالدرجة الأولى.
(إني رأيت الجيش بعيني) تثنية عين، وذكر هذا اللفظ لزيادة التأكيد، فالرؤية إنما تكون بالعينين، أي تحقق عنده جميع ما أخبر عنه، تحقق من رأى شيئا بعينيه، لا يعتريه وهم، ولا يخالطه شك، وفي رواية "بعيني" بالإفراد، و"ال" في "الجيش" للعهد، أي جيش عدوكم.
(وإني أنا النذير العريان) مثل يضرب للناصح الأمين الحريص على مصلحة قومه، الخائف المشفق عليهم، والجملة من كلام الرجل، داخلة في المشبه به، وأكدها بإن واسمية الجملة، وإعادة الضمير "أنا" قال العلماء: وأصل المثل أن رجلا من خثعم حمل عليه رجل يوم ذي الخلصة، فقطع يده ويد امرأته، فانصرف إلى قومه، فحذرهم من العدو، مقدما لهم نفسه وامرأته كدليل على تحقق الخبر، واستبعد أن يكون ذلك أصل المثل، لعدم اشتماله على العري، وقيل أصل المثل أن رجلا لقي جيشا، فسلبوه، وأسروه، فانفلت إلى قومه، فقال: إني رأيت الجيش، فسلبوني فرأوه عريانا، فتحققوا صدقه، لأنهم كانوا يعرفونه ولا يتهمونه في النصيحة، ولا جرت عادته بالتعري، فقطعوا بصدقه لهذه القرائن.
وقال النووي: قال العلماء: أصله أن الرجل إذا أراد إنذار قومه، وإعلامهم بما يوجب المخافة، نزع ثوبه، وأشار به إليهم، إذا كان بعيدا منهم، ليخبرهم بما دهمهم، وأكثر ما يفعل هذا طليعتهم ورقيبهم وعينهم، قالوا: وإنما يفعل ذلك، لأنه أبين للناظر، وأغرب، وأشنع منظرا، فهو أبلغ في استحثاثهم على التأهب للعدو، وقيل: معناه أنا النذير الذي أدركني جيش العدو، فأخذ ثيابي فأنا أنذركم عريانا. اهـ.
أما المشبه، فقد ضرب صلى الله عليه وسلم لنفسه ولما جاء به مثلا بذلك، لما أبداه من الخوارق والمعجزات الدالة على صدقه، تقريبا لأفهام المخاطبين بما يألفونه ويعرفونه، وعند أحمد بسند جيد "خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فنادى ثلاث مرات: أيها الناس. مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا أن يأتيهم، فبعثوا رجلا يترايا لهم، فبينما هم كذلك إذ أبصر العدو، فأقبل لينذر قومه، فخشي أن يدركه العدو، قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه: أيها الناس، أتيتم. أتيتم. أتيتم." فالعريان على ما سبق من العري والتعري، وهو المعروف في