ولما أراد جماعة التشديد على أنفسهم في العبادة وقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأما أنا فأصوم الدهر أبدا، وقال الثالث: وأما أنا فسأتبتل، وأعتزل النساء غضب صلى الله عليه وسلم، وخطب في الناس، وقال: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.
ومن هذا المنطلق كان صلى الله عليه وسلم في عباداته ومعاملاته يميل إلى اليسر، ويتباعد عن العسر، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن هذا الأيسر إثما، أو يؤدي إلى الإثم، فإن كان إثما أو يؤدي إلى الإثم بعد عنه، بل كان أبعد الناس عنه، وعمل بغير اليسر مهما كان صعبا وشاقا.
وكان صلى الله عليه وسلم - من باب التخفيف على الأمة، والتسامح معها- يعفو عمن ظلمه، ولا ينتقم ممن أذاه حين القدرة عليه، ولقد قال لأهل مكة بعد أن فتحها ونصره الله عليهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
فما انتقم لنفسه صلى الله عليه وسلم ممن آذاه، وما ضرب بيده الكريمة امرأة ولا خادما قط، وما آذى إلا لله، وإلا ما انتهكت حرمات الله، صلى الله عليه وسلم.
-[المباحث العربية]-
(ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين)"خير" بضم الخاء وكسر الياء المشددة، مبني للمجهول، وأبهم الفاعل، ليعم ما كان من قبل الله، وما كان من قبل المخلوقين، والأمران إما أن يكونا من أمور الدنيا، وإما أن يكونا من أمور الآخرة، وإما أن يكون أحدهما من أمور الدنيا، والثاني من أمور الآخرة.
(إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما) أي ما لم يكن الأيسر إثما.
(فإن كان إثما كان أبعد الناس منه) أي فإن كان الأيسر إثما تركه وبعد عنه، وأخذ الأصعب الذي لا إثم فيه، وعند الطبراني في الأوسط "إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط".
قال العلماء: وقوع التمييز بين ما فيه إثم، وبين ما لا إثم فيه من العباد واضح وواقع كثيرا، وخصوصا إذا وقع من الكفار، كما وقع في الحديبية، بين أن يرجع من عام، ثم يعود العام القابل معتمرا، وبين القتال، فاختار الأول، وبين أن يمحو من الوثيقة كلمة "رسول الله" وبين أن يرفض الصلح، فاختار الأول.
أما وقوع التمييز من الله فلا يكون بين ما فيه إثم، وما لا إثم فيه، وإنما يكون التمييز منه تعالى بين جائزين، ويصير المعنى ما خيره الله بين أمرين جائزين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فالمستثنى ليس من جنس المستثنى منه، فالاستثناء منقطع، ومثل له بعضهم بالفطر للصائم المسافر، وصلاة الفرض قاعدا للعاجز الذي يشق عليه القيام، وبول الأعرابي في المسجد، صب ذنوب