العبد وربه، وقد قيل: قليل دائم، خير من كثير ينقطع، والمبالغة، والغلو يعقبهما - غالبا - الملل، والملل من العبادة معصية، قد تأتي على ثواب ما قبلها، وفي الحديث "أوغل في الدين برفق، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى"{وما جعل عليكم في الدين من حرج}[الحج: ٧٨]{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}[البقرة: ١٨٥].
من هنا كان صلى الله عليه وسلم حريصا على عدم مغالاة أصحابه في دين الله، بل كان يريد عبادة ربه بشيء، فيتركه، مخافة أن يقتدي به أصحابه، فيشق عليهم، كما فعل صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان، وكان إذا رأى تعمقا أو رغبة في التعمق من أصحابه غضب، ولجأ إلى المنبر ينبه الجميع إلى الترفق بأنفسهم، ويدعو إلى الترخص برخص الله، اقتداء به صلى الله عليه وسلم، فهو أعلم الناس بالله، وهو أتقاهم، وأخشاهم لله، ولكنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، كان يصوم ويفطر مع أنه قادر على الصوم أبدا، إذ يطعمه ربه ويسقيه، ويقوم وينام، ويتمتع بالنساء كما يتمتع بالصلاة، فهو رسول الله وسط لدين وسط، لأمة وسط. صلى الله عليه وسلم ورضي عن آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
-[المباحث العربية]-
(صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا، فترخص فيه) أي فاختار الرخصة واليسر، وقد أومأ ابن بطال إلى أن الذي صنعه صلى الله عليه وسلم وتنزهوا عنه هو القبلة للصائم، وقال غيره: لعله الفطر في السفر.
(فبلغ ذلك ناسا من أصحابه، فكأنهم كرهوه، وتنزهوا عنه) في الرواية الثانية بدون تشبيه، بل بالجزم، ولفظها "فتنزه عنه ناس من الناس" أي جماعة من الصحابة، بحجة أنه صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فإذا ترخص في شيء لم يكن غيره مثله، ممن لم يغفر له ذلك، إذ يحتاج الذي لم يغفر له إلى الأخذ بالعزيمة، والشدة لينجو.
(ما بال رجال بلغهم عني أمر، ترخصت فيه، فكرهوه وتنزهوا عنه؟ ) البال هو الحال، والاستفهام إنكاري توبيخي، أي ما كان ينبغي أي يكون حالهم كذلك، وفي الرواية الثانية "فغضب، حتى بان الغضب في وجهه، ثم قال: ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه"؟
(فوالله لأنا أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية) معناه: أنهم يتوهمون أن تنزههم عما فعلت أقرب لهم عند الله، وإن فعلت خلاف ذلك، وليس كما توهموا، بل أنا أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية وإنما يكون القرب إليه سبحانه وتعالى، والخشية له على حسب ما أمر، لا بمخيلات النفوس، وتكلف أعمال لم يأمر بها، قاله النووي.
وجمع بين العلم بالله، وشدة الخشية له، ليجمع بين القوة العلمية، والقوة العملية.