كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما بأمته، يعز عليه عنتهم ومشقتهم، فكان يباعد بينهم وبين المغالاة في الدين، كما كان يخفف عنهم العقاب، إذا فعلوا ما يجوز لهم من الأخذ بالشدة، فلا يواجه المتعمق، ولا يحرجه، حياء منه صلى الله عليه وسلم، وسترا عليه، فلا يعين الشخص عند العتاب، كأن يقول له: ما بالك يا فلان فعلت كذا؟ أو ما بال فلان يفعل كذا؟ فهو في هذه الحالة التي يستخدمها صلى الله عليه وسلم كأنه لم يواجه المخطئ وإن كان موجودا في جملة المخاطبين.
وقد أخرج مسلم في كتاب الصيام عن عائشة رضي الله عنها "أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أصبح جنبا، وأنا أريد الصيام، فأغتسل وأصوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا تدركني الصلاة، وأنا جنب، فأصوم، فقال يا رسول الله، إنك لست مثلنا؟ قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إني أرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي" ونحو هذا في حديث أنس المذكور في كتاب النكاح. "أن ثلاثة رهط سألوا عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر" الحديث. وفيه قولهم "وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" وفيه قوله لهم "والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء".
-[ويؤخذ من الحديث]-
١ - الحث على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله. والأصل فيه قوله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}[الأحزاب: ٢١] وقد ذهب جمع إلى وجوبه، لدخوله في عموم الأمر، بقوله تعالى {وما ءاتاكم الرسول فخذوه}[الحشر: ٧] وبقوله {فاتبعوني يحببكم الله}[آل عمران: ٣١] وبقوله تعالى {فاتبعوه}[الأنعام: ١٥٣، ١٥٥] فيجب اتباعه في فعله، كما يجب اتباعه في قوله، حتى يقوم دليل على الندب أو الخصوصية، وقال آخرون: يحتمل الوجوب والندب والإباحة، فيحتاج إلى القرينة، والجمهور للندب، إذا ظهر وجه القربة، وقيل: ولو لم يظهر، ومنهم من فصل بين التكرار وعدمه، وقال آخرون: ما يفعله صلى الله عليه وسلم، إن كان بيانا لمجمل، فحكمه حكم ذلك المجمل، وجوبا أو ندبا أو إباحة، فإن ظهر وجه القربة فللندب، وما لم يظهر فيه وجه التقرب فللإباحة.
وأما تقريره صلى الله عليه وسلم على ما يفعل بحضرته فيدل على الجواز، وإذا تعارض فعله وقوله. قيل: يقدم القول، لأن له صيغة، تتضمن المعاني، بخلاف الفعل، وقيل: يقدم الفعل، لأنه لا يطرقه من الاحتمال ما يطرق القول، ثالث الأقوال: يلجأ إلى الترجيح، وكل ذلك ما لم تقم قرينة تدل على الخصوصية.
وذهب الجمهور إلى القول الأول والحجة له أن القول يعبر عنه عن المحسوس والمعقول، بخلاف الفعل، فيختص بالمحسوس، فكان القول أتم، وبأن القول متفق على أنه دليل، بخلاف الفعل، ولأن القول يدل بنفسه، بخلاف الفعل، فيحتاج إلى واسطة، وبأن تقديم