(لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط، إلا ثلاث كذبات) قال أبو البقاء: الجيد أن يقال: كذبات بفتح الذال في الجمع، لأنه جمع "كذبة" بسكون الذال، وهو اسم لا صفة، لأنك تقول: كذب كذبة، كما تقول: ركع ركعة.
وقد استشكل على هذا الحصر، ففي مسلم في حديث الشفاعة الطويل، في قصة إبراهيم ذكر قوله في الكوكب:{هذا ربي} وقوله لآلهتهم {بل فعله كبيرهم} وقوله {إني سقيم}[الصافات: ٨٩] قال القرطبي ذكر الكوكب يقتضي أنها أربع. قال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر أنها وهم من بعض الرواة، فإنه ذكر قوله في الكوكب، بدل قوله في سارة، والذي اتفقت عليه الطرق ذكر سارة، دون الكوكب، وكأنه لم يعد، مع أنه أدخل - في المقصود - من ذكر سارة، لما نقل من أنه قاله في حال الطفولية، فلم يعده، لأن حال الطفولية ليست بحال تكليف. وهذه طريقة ابن إسحق، وقيل: إنما قال ذلك بعد البلوغ، لكنه قاله على طريق الاستفهام، الذي يقصد به التوبيخ، وقيل: قاله على طريق الاحتجاج على قومه، تنبيها على أن الذي يتغير لا يصلح للربوبية، وهذا قول الأكثر، وأنه قاله توبيخا لقومه، أو تهكما بهم، وهو المعتمد. اهـ. وهذا الذي ذهب إليه الحافظ يصلح بصفة أكثر في قوله {بل فعله كبيرهم هذا} فإنه يبعد عن التصديق عند المتكلم والسامع معا، ولذلك قال:{فاسألوهم إن كانوا ينطقون} وقالوا ردا عليه {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} فعقب على ذلك بقوله {أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون} فالإشكال باق، والذي أوقع فيه هو الرواية، وخير التوجيهات أنه قاله على سبيل الاستفهام، ولا يدخله الكذب، فالكذب في الأخبار.
على أن إطلاق الكذب على الأمور الثلاث ليس على سبيل الحقيقة المتفق عليها، إذا أدخلنا اعتقاد المتكلم والسامع في تعريفه، فالتعريض والتورية، يقصد المتكلم فيها مطابقة الخبر للواقع، وإن كان حسب فهم المخاطب غير مطابق للواقع، فإبراهيم حين قال {بل فعله كبيرهم هذا} ربما قصد أنه كان السبب، أي تسبب في الفعل، وأثارني كبيرهم هذا والإسناد إلى الشيء مع إرادة السبب كثير، وربما قصد توقف الكلام عند قوله {بل فعله} مريدا إبراهيم، ثم البدء بقوله {كبيرهم هذا فاسألوهم} أي اسألوه ومن حوله، وربما قصد توقف الجواب المستحيل على الشرط المستحيل، أي إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم لكنهم لا ينطقون. قال ابن قتيبة، وقوله {إني سقيم} ربما قصد مريض النفس، ضائق الصدر من أفعالكم وتصرفاتكم، وربما كان عنده مرض حقيقي يعلمه وحده وربه، وإن كان لا يمنع من الخروج، فقد حكى النووي عن بعضهم، أنه كان تأخذه الحمى في ذلك الوقت، وربما أراد الاستقبال، أي سأسقم، واسم الفاعل يستعمل بمعنى المستقبل كثيرا، وقوله "هذه أختي" قصد به أخوة الإسلام، كما جاء في الرواية صريحا، ونتيجة ذلك أن الثلاث صور كذبات وليست في الحقيقة كذبات.
(ثنتين في ذات الله، قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وواحدة في شأن سارة) خص الثنتين بذلك، وإن كانت الثالثة أيضا في ذات الله، لكنها لما تضمنت حظا لنفسه ونفعا له، لم تعتبر في ذات الله محضا، بخلاف الثنتين، وقد وقع في بعض الروايات "إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات، كل ذلك في ذات الله" وعند أحمد "والله إن جادل بهن إلا عن دين الله" وفي رواية "ما فيها كذبة إلا مما حل بها عن الإسلام" أي جادل ودافع.