العرب صيغة للماضي، لا بقرينة ولا بغيرها، لأنها بمعنى الإنشاء والابتداء، وقوله:"اعملوا ما شئتم" يحمل على طلب الفعل، ولا يصح أن يكون معنى الماضي، ولا يمكن أن يحمل على الإيجاب، فتعين الحمل على الإباحة، قال: وقد ظهر لي أن هذا الخطاب خطاب تشريف وإكرام، تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة، غفرت بها ذنوبهم السالفة، وتأهلوا أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة، ولا يلزم من وجود الصلاحية للشيء وقوعه، وقد ظهر أن الله صدق رسوله في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك، فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة، إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قدر صدور شيء من أحدهم لبادر إلى التوبة، ولازم الطريق المثلى، ويعلم ذلك من أحوالهم بالقطع من اطلع على سيرهم. اهـ.
قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "فقد غفرت لكم" أن ذنوبكم تقع مغفورة، لا أن المراد أنه لا يصدر منهم ذنب، وقد شهد مسطح بدرا، ووقع في إفك عائشة، فكأن الله لكرامتهم عليه، بشرهم على لسان نبيه أنهم مغفور لهم، ولو وقع منهم ما وقع. اهـ.
ويجيب الجمهور على شبهة الآخرين بأن التعبير بالماضي قد يكون على المستقبل مبالغة في تحققه، كما في قوله تعالى {أتى أمر الله}[النحل: ١] أي سيأتي أمر الله، فمعنى "غفرت لكم" أي سأغفر لكم، على أن الطبري أخرجه بلفظ "فإني غافر لكم" وفي مغازي ابن عائذ، من مرسل عروة "اعملوا ما شئتم فسأغفر لكم".
أما شبهة أن الأمر بقوله:"اعملوا ما شئتم" فيه إطلاق للذنوب، ولا يصح، فإنه معقول مع المكثرين من الذنوب، أما هؤلاء الصفوة الذين وهبوا حياتهم لله، فإن فتح باب المعصية لهم لا يدفع بهم إليها، بل في ذلك ما يزيد امتناعهم وبعدهم عنها، وكلما قرب الله عبدا منه كلما ازداد خوفه وخشيته وتقواه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قيل له: إنك قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال:"إنما أنا أخشاكم لله وأتقاكم له. أفلا أكون عبدا شكورا؟ ".
أما أنهم لا يعفون من الحد إذا أتوا ما يوجب الحد، فهذا في حكم الدنيا، وموطن النزاع هو المغفرة في الآخرة، فلا تعارض.
يضاف إلى ذلك أنه لو كانت البشارة للماضي فقط لما حسن الاستدلال بالبشارة في قصة حاطب لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب به عمر، منكرا عليه ما قال في أمر حاطب، وهذه القصة كانت بعد بدر بست سنين، فدل هذا الاستدلال على أن المراد مغفرة ما سيأتي والله أعلم.
٢ - وقد أثار هذا الحديث حكم الجاسوس، فقد استدل باستئذان عمر لقتل حاطب لمشروعية قتل الجاسوس، ولو كان مسلما وإن تاب، وهو قول بعض المالكية، ومن وافقهم، ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم أقر عمر على إرادة القتل، لولا المانع، وبين أن المانع هو كون حاطب شهد بدرا، وهذا منتفى في غير حاطب، فلو كان الإسلام مانعا من قتله، لما علل بأخص منه، وقال بعض المالكية: يقتل، إلا أن يتوب، وقال مالك: يجتهد فيه الإمام، ومذهب الشافعي وطائفة أن الجاسوس المسلم يعزر، ولا يجوز قتله.