ويطلق القرن على مدة من الزمان، واختلفوا في تحديدها، من عشرة أعوام، إلى مائة وعشرين. وذكر الجوهري أقوالا، بين الثلاثين عاما والثمانين، وذكر صاحب المحكم أقوالا فيما بين العشرة والسبعين، ثم قال: هذا هو القدر المتوسط من أعمار أهل كل زمن. قال الحافظ ابن حجر: وعند مسلم ما يدل على أن القرن مائة، وهو المشهور - يشير إلى أحاديث الباب التالي.
والمراد من قرنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث الباب الصحابة، ومن الذين يلونهم التابعون، ومن الذين يلونهم أتباع التابعين، قال شهر: قرنه صلى الله عليه وسلم: ما بقيت عين رأته، والذين يلونهم ما بقيت عين رأت من رآه، وهكذا. وقال الحافظ ابن حجر: وقد ظهر أن الذي بين بعثته صلى الله عليه وسلم وآخر من مات من الصحابة مائة وعشرون سنة، أو دونها أو فوقها بقليل، على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل، وإن اعتبر ذلك من بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، - على ضوء أحاديث الباب التالي - فيكون مائة سنة، أو تسعين، أو سبعا وتسعين.
وأما قرن التابعين، فإن اعتبر من سنة مائة كان نحو سبعين أو ثمانين، وأما الذين بعدهم فإن اعتبر منها كان نحوا من خمسين فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار أهل كل زمان، واتفقوا على أن آخر من كان من أتباع التابعين، ممن يقبل قوله: من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورا فاشيا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رءوسها، وامتحن أهل العلم، ليقولوا بخلق القرآن، وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن، وظهر قوله صلى الله عليه وسلم:"ثم يفشو الكذب" ظهورا بينا، حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات. والله المستعان. اهـ.
والمراد من خيرية القرن، خيرية مجموعه وجملته بالنسبة لمجموع غيره وجملته هذا ما نميل إليه، وإن قال الحافظ ابن حجر: لكن هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد محل بحث. وإلى الثاني نحا الجمهور، والأول قول ابن عبد البر، وسنحقق القول في هذه المسألة في فقه الحديث.
(ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) وفي رواية "ثم يجيء أقوام" وفي الرواية الرابعة "ثم يجيء قوم تبدر شهادة أحدهم يمينه، وتبدر يمينه شهادته" و"تبدر" بفتح التاء وسكون الباء وضم الدال، بمعنى تسبق. قال الحافظ ابن حجر: أي في حالين، في حالة يشهد، ثم يحلف على صحة شهادته، ليقويها، فتسبق الشهادة اليمين، وفي حالة يحلف على صدق شهادته قبل أن يشهد، وليس المراد أن ذلك يقع في حالة واحدة، لأنه دور، به تصبح الشهادة سابقة ومسبوقة في وقت واحد، واليمين كذلك. قال: ويحتمل أن يقع ذلك في حال واحدة عند من يجيز الحلف في الشهادة، فيريد أن يشهد ويحلف. اهـ. وفي هذا الاحتمال نظر، لأن غاية ما فيه الجمع بين الحلف والشهادة، لا سبق كل منهما الآخر.
وقال الطحاوي: أي يكثرون الأيمان في كل شيء، حتى تصير عادة لهم، والحرص على ذلك، حتى لا يدرى بأيهما يبدأ، لقلة المبالاة باليمين والشهادة.