هما بابان عند البخاري، باب من أحق الناس بحسن الصحبة، وباب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين، وقد جعلناهما بابا واحدا مجاراة للنووي رحمه الله، وفعل البخاري أولى وأدق، فقد خصص النووي بابا لتقديم الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرهما، فكان حقه أن يخص تقديم الوالدين على الجهاد، بباب.
لهذا نتكلم في فقه الحديث عن ثلاث نقاط: الفرق بين الأم والأب في البر، والجهاد بإذن الأب والأم، ثم ما يؤخذ من الأحاديث.
فالرواية الأولى والثانية وملحقاها في الحث على بر الأقارب، وأن الأم أحقهم بذلك، ثم بعدها الأب، ثم الأقرب فالأقرب، قال العلماء: وسبب تقديم الأم كثرة تعبها على الابن، وشفقتها عليه، وخدمتها له، ومعاناة المشاق في حمله، ثم وضعه، ثم إرضاعه، ثم تربيته وخدمته وتمريضه وغير ذلك. قلت: واحتياجها إلى بر الابن أكثر من الأب، لضعفها غالبا.
قال النووي: ونقل الحارث المحاسبي إجماع العلماء على أن الأم تفضل في البر على الأب، وحكى القاضي عياض خلافا في ذلك، فقال: قال الجمهور بتفضيلها، وقال بعضهم: يكون برهما سواء، قال: ونسب بعضهم هذا إلى مالك، والصواب الأول، لصريح هذه الأحاديث في المعنى المذكور. اهـ.
أقول: واقتضت الآيات التي سقناها في المعنى العام الوصية بالوالدين، والأمر بطاعتهما، ولو كانا كافرين، إلا إذا أمرا بالشرك، فتجب معصيتهما في ذلك، عملا بقوله تعالى {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا}[لقمان: ١٥]
وقد أخرج مسلم في صحيحه عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: حلفت أم سعد، لا تكلمه أبدا، حتى يكفر بدينه، قالت: زعمت أن الله أوصاك بوالديك، فأنا أمك، وأنا آمرك بهذا، فنزلت {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما}[العنكبوت: ٨] وفي رواية "قالت أمه: يا سعد. لن آكل، ولن أشرب حتى أموت، فتعير بي بين العرب، فيقال لك: يا قاتل أمه. فقال سعد: يا أماه. والله لقد علم العرب أنني أبر الناس بأمي، ولكن. لو أن لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا، ما رجعت عن ديني".
وحديثنا صريح في أن للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، ويقويه ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم بالأقرب فالأقرب". ويؤيد القول بتقديم الأم ما أخرجه الحاكم وأبو داود "أن امرأة قالت: يا رسول الله. إن ابني هذا، كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني،