من هذا العرض لأنواع الشفاعة يتضح أن رواياتنا الأولى والثالثة والرابعة، كل منها فيها سقط وحذف كبير، كأن الراوي في كل منها ركب شيئا على غير أصله. وذلك أن أول الحديث ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار، ولعل الرواية السادسة توضح هذا السقط، إذ فيها "فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم، فيقوم فيؤذن له (أي ويشفع للخلائق من هول الموقف، فينصرف إلى النار من ينصرف ويتم العرض والحساب، وينصب الصراط) وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جنبي الصراط، يمينا وشمالا، فيمر أولكم كالبرق" الحديث، فبهذا يتصل الكلام، وتجتمع متون الأحاديث، لأن الشفاعة التي لجأ الناس إليها فيها هي الإراحة من كرب الموقف، وبعدها يجري من أمور القضاء بين العباد ما يجرى، ثم يمر المؤمنون على الصراط، ويسقط في النار من يسقط، ثم تحل الشفاعة في إخراج العصاة من النار. فكأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وفي هذا الإشكال يقول الداودي عن رواياتنا: لا أراه محفوظا، لأن الخلائق اجتمعوا واستشفعوا، ولو كان المراد هذه الأمة خاصة لم تذهب إلى غير نبيها، فدل على أن المراد الجميع، وإذا كانت الشفاعة لهم في فصل القضاء، فكيف يخصها بقوله: أمتي أمتي" ثم قال: وأول هذا الحديث ليس متصلا بآخره، بل بقي بين طلبهم الشفاعة وبين قوله: "أمتي، أمتي" أمور كثيرة من أمور القيامة. اهـ.
ومن هذا العرض لأنواع الشفاعة نستطيع فهم المراد من المقام المحمود الذي ورد في الرواية السادسة عشرة من الحديث الذي سبق أن شرحناه، والذي يقول الله تعالى فيه:{ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}[الإسراء: ٧٩].
قال ابن بطال: الجمهور على أن المراد به الشفاعة، وبالغ الواحدي فنقل فيه الإجماع.
وقال الطبري: قال أكثر أهل التأويل: المقام المحمود هو الذي يقومه النبي صلى الله عليه وسلم ليريحهم من كرب الموقف، ثم ساق عدة أحاديث في ذلك منها ما روي عن أبي هريرة في قوله تعالى:{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}. قال: سئل عنها صلى الله عليه وسلم. فقال: "هي الشفاعة" ومن حديث كعب بن مالك رفعه "أكون أنا وأمتي على تل، فيكسوني ربي حلة خضراء ثم يؤذن لي، فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود" ومن حديث ابن مسعود رفعه "إني لأقوم يوم القيامة المقام المحمود إذا جيء بكم حفاة عراة"، وفيه "ثم يكسوني ربي حلة، فألبسها فأقوم عن يمين العرش مقاما لا يقومه أحد؛ يغبطني به الأولون والآخرون".
قال الحافظ ابن حجر: والراجح أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة لكن الشفاعة التي وردت في المقام المحمود نوعان: الأول: العامة في فصل القضاء، والثاني: الشفاعة في إخراج المذنبين من النار. اهـ. وظاهر كثير من الأحاديث تؤيد النوع الأول، والرواية السادسة عشرة من الحديث السابق تؤيد النوع الثاني إذ فيها "فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج".
وقيل: المقام المحمود أن يجلسه الله معه على عرشه يوم القيامة، وقيل: إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة، وقيل: وقوفه بين الله وبين جبريل يوم القيامة مما يغبطه بمقامه ذلك أهل الجمع، وقيل: هو ثناؤه على ربه.