وينقلب إلى أهله مسرورا* وأما من أوتي كتابه وراء ظهره* فسوف يدعو ثبورا* ويصلى سعيرا} [الانشقاق: ٧ - ١٢] ويروي البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك. قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله. أليس الله يقول:{فأما من أوتي كتابه بيمينه* فسوف يحاسب حسابا يسيرا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب".
وحديث الباب يفيد دخول زمرة من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، مما يشير إلى أن وراء التقسيم في الآية أمورا أخرى. قال القرطبي: إن الحساب المذكور في الآية إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه، حتى يعرف منة الله عليه في سترها عليه في الدنيا، وفي عفوه عنها في الآخرة. اهـ.
أما من نوقش في الحساب، وحوسب حساب استقصاء فإنه يعذب.
وعند ابن أبي حاتم والحاكم من حديث جابر "من زادت حسناته على سيئاته فذاك الذي يدخل الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته وسيئاته فذاك الذي يحاسب حسابا يسيرا، ثم يدخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته فذاك الذي أوبق نفسه، وإنما الشفاعة في مثله".
فإن صح هذا دل على أن الذين يدخلون الجنة بغير حساب أرفع رتبة من غيرهم مطلقا، لكن قال الحافظ ابن حجر: وليس الأمر كذلك، فقد أخرج أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث رفاعة الجهني قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثا، وفيه "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب، وإني لأرجو ألا يدخلوها حتى تبوءوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة" فهذا يدل على أن مزية السبعين بالدخول بغير حساب لا تستلزم أنهم أفضل من غيرهم، بل فيمن يحاسب في الجملة من يكون أفضل منهم، وفيمن يتأخر عن الدخول، ممن تحققت نجاته، وعرف مقامه من الجنة، من هو أفضل منهم.
ثم ساق حديثا رواه الطبراني عن أم قيس بنت محصن، وهي أخت عكاشة أنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، فقال: يحشر من هذه المقبرة سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب كأن وجوههم القمر ليلة البدر". اهـ.
ومن هذا الحديث يستدل الحافظ ابن حجر على أن مزية السبعين ألفا هذه لا تستلزم مزيتهم على الناس على الإطلاق.
والذي تستريح إليه النفس أن هؤلاء السبعين ألفا -إذا استثنينا الأنبياء- أفضل من غيرهم، فهم أفضل ممن يحاسب حسابا يسيرا وممن يحاسب فيعذب، ولعلهم السابقون السابقون أو هم من السابقين على الأقل.
نعم. قيل: إن هذا العدد لا مفهوم له، بل المراد به التكثير، شأنه في ذلك شأن السبعة في الآحاد، ومنه قوله تعالى:{والبحر يمده من بعده سبعة أبحر}[لقمان: ٢٧] وقوله: {سبع سنابل}[البقرة: ٢٦١] وقوله: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم}[التوبة: ٨٠].