ورد هذا الاستدلال بما ثبت في البخاري من الأحاديث الدالة على أنهم كانوا يقتتلون على وضوء النبي صلى الله عليه وسلم يشربون منه، فلو كان يجب إبعاده لم يتبرك به ولم يشرب، ثم إن خروج الذنوب مع الماء لا ينجس الماء، فلم يقل أحد إن الماء ينجس بالذنوب إلا على سبيل المجاز.
وضعف هذا الرأي بأدلة أخرى، ساقها القائلون بأنه طاهر في نفسه، وهم الشافعية والمالكية والحنابلة وجمهور السلف والخلف ورواية عن أبي حنيفة، من هذه الأدلة:
أنه ماء طاهر، لاقى محلا طاهرا، فكان طاهرا، كما لو غسل به ثوب طاهر.
ومنها ما قاله ابن المنذر من إجماع أهل العلم على أن البلل الباقي على أعضاء المتوضئ، وما قطر منه على ثيابه طاهر، وقد ثبت بلا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه -رضي الله عنهم- كانوا يتوضئون، ويتقاطر الماء على ثيابهم، ولا يغسلونها.
ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال:"مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه يعوداني، فوجداني قد أغمى علي، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم، وصب علي من وضوئه" فإن قيل: خصوصية قلنا: إن الأصل أن حكمه وحكم أمته واحد، إلى أن يقوم دليل يقضي بالاختصاص، ولا دليل.
ومنها: أن الأصل في الماء الطهارة، والحكم بكونه نجسا حكم شرعي يحتاج إلى دليل لا يتطرق إليه الاحتمال، ولا دليل.
ومنها: أنه يلزمهم أن يقولوا بتحريم شربه، وهو لا يقولون به.
واختلف القائلون بطهارة الماء المستعمل، هل تجوز به الطهارة أو لا؟
فذهب أحمد، والليث، والأوزاعي، والشافعي، ومالك في إحدى الروايتين عنهما وأبو حنيفة في رواية عنه إلى أن الماء المستعمل غير مطهر، قال النووي في أحكام فروع هذا المذهب: إن كان قلتين فصاعدا لم يصر الماء مستعملا، ولو اغتسل فيه جماعات في أوقات متكررات، وأما إذا كان دون القلتين، فإن انغمس فيه الجنب بغير نية، ثم لما صار تحت الماء نوى ارتفعت جنابته، وصار الماء مستعملا، وإن نزل فيه إلى ركبتيه مثلا ثم نوى، قبل انغماس باقيه صار الماء في الحال مستعملا بالنسبة إلى غيره، وارتفعت الجنابة عن ذلك القدر المنغمس، بلا خلاف، وارتفعت أيضا عن القدر الباقي إذا تمم انغماسه، على المذهب الصحيح، لأن الماء إنما يصير مستعملا بالنسبة إلى المتطهر إذا انفصل عنه، أما لو انفصل، ثم عاد إليه، لم يجزئه ما يغسله به بعد ذلك بلا خلاف، ولو انغمس رجلان تحت الماء الناقص عن قلتين، ثم نويا دفعة واحدة ارتفعت جنابتهما، وصار الماء مستعملا، فإن نوى أحدهما قبل الآخر ارتفعت جنابة الناوي، وصار الماء مستعملا بالنسبة إلى رفيقه، فلا ترتفع جنابته على المذهب الصحيح، وقال في شرح المهذب: والماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر لا يصلح لرفع الحدث الأصغر وبالعكس، وفي جواز استعماله في إزالة النجاسة خلاف، والمذهب أنه لا يجوز. ولو جمع المستعمل، حتى صار