لحسن تقريبه وبسطه، ثم نقل للجامع الأعظم فأقرأ أحكام عبد الحق وفرعي ابن الحاجب ويحضره طلبة فاس وشأنهم حفظ المسائل والنقل على عادتهم خلاف عادة التلمسانيين فيحضره جميعهم فيوفي لكل طريقه. حدثني الفقيه العدل محمد بن صالح الفاسي أنه وجماعة أصحابه يختبرون حفظه وصحة نقله فيأتون بالكتب التي ينقل منها وينظرونها حين نقله عنها فلا يغير منها حرفًا فاعترفوا بحفظه وتحقيقه، ثم بعد نقله يرجع ويوجه لشدة ذكائه حتى علم الفقه أبو القاسم بن رضوان رئيس كتبة المغرب حاله فذكره للسلطان عبد العزيز وبين له علو قدره فوفر له في جرايته من غير سعي فيه، فكان يكثر في اقرائه النقل ويحقق الفقه تحقيقًا بالغًا، وفي الصيف يقرأ في العلوم العقلية من أصول وبيان وعربية وغيرها، يقطع نهاره كله فيه بلا فتور.
وكان الطلبة يقسمون الوقت بالرملية حتى لم يكن بالمغرب أكثر اجتهادًا منه في الاقراء وانتفاع الطلبة، وارتحلوا إليه من الأفاق. وقال الشيخ الفقيه الصالح الزاهد الورع أبو العباس أحمد بن موسى البجائي، وكان ممن رحل إليه وأخذ عنه علمًا جمًا، لا يجد اليوم من يرحل عن هذا البلد مثل شيخنا أبي محمد في غزارة العلم وسهولة الإلقاء وخفض الجناح، وكان يثني عليه ثناء عظيمًا ويذكر أنه لم يجد شفاء علته في العلم إلا عنده.
وتبرز صدرًا من صدور العلماء الأئمة حافظًا للمسائل بصيرًا بالفتاوى والأحكام والنوازل نحويًا خالط النحو دمه حافظًا للغة والغريب والشعر والمثل وأخبار العلماء ومذاهب الفرق، مشاركًا في جميع العلوم حسن المجلس عذب الحديث فصيحًا مليح المنطق محسنًا لرحمه، مشفقًا على الطلبة متثبتًا في الفتوى متحريًا فيها. ولما وقف القاضي أبو عثمان العقباني على جوابه عن سؤال البجائيين في مسألة أصول الدين كتب تحته شرح اللَّه صدرك ورفع من بين أهك العلم قدرك والسلام -اهـ- ما ذكره صاحب التقييد المذكور ملخصًا.
قلت: ثم رحل ودخل غرناطة من الأندلس واقرأ هناك، وتوفي انصرافه من مالقة غريقًا في البحر قاصدًا بلده تلمسان في صفر سنة اثنين وتسعين