الشيخ الفقيه أبو القاسم المشذالي حضرنا مجالسهم فما رأينا ولا سمعنا من يشبه العبدوسي في حفظه، وعلمنا صدق ابن مرزوق فيما وصفه به، وأن من ورعه أن لا يذكر ولا يكتب إلا بما تحقق، كما قال الشاعر:
فَلَمَّا الْتَقَيْنَا صدَّق الخَبَرَ الخَبْرُ
وقال الآخر:
بل صَغَّرَ الخَبَرَ الخُبْرُ
وكذلك فعلنا نحن تركنا مجلس تدريسي وحضرت عنده لآخذ شيئًا من طريقه وأقتطف من رأس يانع تحقيقه، فلما حضرت رأيت شيئًا لا يدرك إلّا بعناية ربانية، موقوف ذلك على من رزقه اللَّه الحفظ ينفق منه كيف يشاء، وأما غيره فلا، لازمناه حضرًا وسفرًا وعلمنا طريقه تفكرًا ونظرًا. ولا يقدر على طريقته إلا من حاز فطنة كاملة الاستواء ممدة من جميع القوى، فمن طريقه إذا قرأ المدونة فاستمع لما يوحي يبتدئ على المسألة من كبار أصحاب مالك ثم ينزل طبقة طبقة حتى يصل إلى علماء الأقطار من المصريين والافريقيين والمغاربة والأندلسيين وأئمة الإسلام وأهل الوثائق والأحكام حتى يكل السامع وينقطع عن تحصيله المطالع، وكذا إذا انتقل إلى الثانية وما بعدها، هذا بعض طريقه في المدونة.
وأما إذا ارتقى إلى كرسيه فترى أمرًا معجزًا ينتفع به من قدر له نفعه من الخاصة والعامة، يبتدئ بأذكار وأدعية مرتبة لذلك يكررها كل صباح يحفظها الناس ويأتونها من كل فج عميق يتسابقون في حفظها، وبعد ذلك يقرأ القارئ آية فلا يتكلم بشيء منها إلا قليلًا ثم يفتتح فيما يناسبها من الأحاديث النبوية وأخبار السلف وحكايات صوفية وسير شريفة نبوية وصحابية وأخبار التابعين وتابعيهم، ثم بعدها يرجع إلى الآية وربما أخذ في نقل الأحاديث فيقول الحديث الأول كذا والثاني كذا والثالث إلى المائة فأزيد حتى يختمها ثم كذلك في المائة الثانية، ونشك في المائة الثالثة، ويأتي في نظر ذلك ونقلها بأمر خارق للعادة، هكذا فعل في مسجد القصر وغيره، وكان الناس يتسابقون إلى