وكأنه أشار به لنفسه فلم يلبث بعده حتى خطف فكأنه كاشفنا بذلك ولا شك أنه لا يوجد مثله أبدًا، وأما زهده وإعراضه عن الدنيا فمعلوم ضرورة عند الكافة، بعث إليه السلطان في أخذ شيء من غلات مدرسة الحسن أبركان فامتنع فألحوا عليه فكتب في الاعتذار كتابة مطولة فقبل منه، وسمعته يقول: الولي الحقيقي من لو كشف له عن الجنة وحورها ما التفت إليها ولا ركن لغيره تعالى، فهذه حقيقة العارف- اهـ.
فهذا حاله، وأما وعظه فكان يقرع الأسماع وتقشعر منه الجلود، كل من حضر يقول معي يتكلم وإياي يعني جله في الخوف والمراقبة وأحوال الآخرة، لا تخلو مجالسه منه مع حلاوة له لا، توجد في كلام غيره، يعظ كل أحد بحسب حاله ما رأيته قط إلا وشفتاه متحركتان بالذكر وربما يكلمه إنسان وأسمعه يذكر اللَّه تعالى وتسمع لقلبه أنينًا من شدة خوفه ومراقبته على الدوام، سمعته يقول: حقيقة العبودية امتثال الأمر واجتناب النهي مع كمال الذلة والخضوع- اهـ.
كان أورع زمانه، يبغض الاجتماع بأهل الدنيا والنظر إليهم وقربهم، خرجنا معه يومًا صحراء فرأى على بعد ناسًا راكبين على خيول مع ثياب فاخرة، فقال: من هؤلاء؟ قلنا: خواص السلطان، فتعوذ باللَّه ورجع لطريق آخر ولقيهم مرة أخرى وما تمكن من الرجوع فجعل وجهه للحائط وغطاه حتى جازوا ولم يروه، ولما وصل في تفسيره سورة الإخلاص وعزم على قراءتها يومًا والمعوذتين يومًا سمع به الوزير وأراد حضور الختم فبلغه ذلك فقرأ السور الثلاثة يومًا واحدًا خيفة حضوره عنده.
وطلبه السلطان أن يطلع إليه ويقرأ التفسير بحضرته، على عادة المفسرين، فامتنع فألحوا عليه فكتب إليه معتذرًا بغلبة الحياء له ولا يقدر على التكلم هناك فأيسوا منه، وإذا سمع بوليمة أحد من أبناء الدنيا يخلف يومه عن الحضور خيفة أن يدعى فلا يظهر بالكلية حتى تمر أيام الوليمة، وربما تخلف قبله أيامًا ولا يقبل عطية السلطان ومن لاذ به وربما تأتي داره وهو غائب