فقل لأصحابك الفلاحين تصدّقوا بمثل ما أنفقتم تمطروا، فقال له: لا يصدقني أحد، ولكن مرني في نفسي فقال له: تصدق أنت بمثل ما أنفقت. فقال له: إذا أمطرت أخرجت من ثمن الغلة مثل ما أنفقت، فقال له: إن اللَّه تعالى لا يعامل بالدين ولكن استسلف، فاحتال وتصدق بها كما أمره، قال: فخرجت إلى البحيرة التي عمرتها، والشمس شديدة الحر، فآيست من المطر، وقد أشرف جميع غرسي على الهلاك، فبقيت ساعة فإذا سحابة أمطرت البحيرة ورويت وظننت أن الدنيا كلها مطرف، فخرجت فإذا هو لم يتجاوزها- اهـ. وحكايته في مثل هذا كثير.
قال الشيخ العارف أبو الحجاج يوسف التادلي في كتاب (التشوف إلى رجال التصوف): وكان أبو العباس جميل الصورة، أبيض اللون، حسن الثياب، فصيح اللسان، مقتدرًا على الكلام، حليمًا صبورًا، يحسن إلى من يؤذيه ويحلم على من يسفه عليه، رحيمًا عطوفًا محسنًا إلى اليتامى والأرامل، يجلس حيث أمكنه الجلوس، ويحضّ على الصدقة ويذكر في فضلها آيات وأحاديث، ويأخذها ويفرقها، ويرد أصول الشرع إليها، ويفسرها بها، فيقول معنى قول المصلي: اللَّه أكبر، أي من أن نضن عليه بشيء، فمن رأى شيئًا من متاع الدنيا في نفسه أكبر فلم يحرم ولا كبر، ومعنى رفع اليدين في التكبير تخليت من كل شيء لا قليلًا ولا كثيرًا، وهكذا يتكلم في جميع العبادات، ويقول: سرّ الصوم أن تجوع، فإذا جعت تذكرت الجائع وما يقاسيه من نار الجوع، فتصدق عليه، فمن صام ولم ينعطف على الجائع فكأنه لم يصم، إلى غيره، من كلامه في مثل هذا. وإذا أتاه امرؤ في أمر يقول: تصدق تصب ما تريد. وأخباره في ذلك عجيبة كثيرة.
قال التادي: وحدثني ولده الفقيه أبو عبد اللَّه عن أبيه في بدء أمره أنه قال: كنت صغيرًا أسمع كلام الناس في التوكل، ففكرت في حقيقته، فرأيت أنه لا يصلح إلا بترك شيء، ولم يكن عندي يد فتركت الأسباب، وطرحت العلائق، ولم تتعلق نفسي بمخلوق، فخرجت سائحًا متوكلًا وسرت نهاري كله، فأجهدني الجوع والتعب، وكنت نشأت في رفاهية عيش، وما مشيت قط