على قدمي، فبلغت قرية فيها مسجد فتوضأت ودخلته، فصليت المغرب والعشاء، وخرج الناس، وقمت لأصلي فلم أقدر من شدة الجوع والتألم بالمشي، فصليت ركعتين، وجلست أقرأ القرآن إلى أن مضى جزء من الليل، فإذا قارع يقرع دارًا بعنف، فأجابه صاحب الدار، فقال: أرأيت بقرتي؟ فقال: لا. فقال: إنها ضلت وقد أكثر عجلها من الحنين، فطلبها فلم يجدها في القرية، فقال أحدهم: لعلها في المسجد ففتحوا بابه ووجدوني، فقال صاحب البقرة: أظنك ما أكلت شيئًا، فجاءني بكسرة خبز وقدح لبن، ثم ليأتيني بالمال فوجد بقرته في وسط الدار، فقال: خرجت بقصد البقرة وما كان خروجي إلا لهذا الفتى الجائع في المسجد، فجاء وطلب مني أن أمشي معه لمنزله فأبيت.
وكان -رحمه اللَّه- في أول أمره يسكن الفندق، ويعلم الحساب والنحو، ويأخذ الأجرة عليه وينفقها على الطلبة الغرباء، ويمشي في الأسواق يذكّر الناس ويضربهم على ترك الصلاة، ويأتي بالطعام على رأسه، وبات ليلة عند الطلبة، فارتفعت أصواتهم بالمذاكرة، فإذا بالحرس قرعوا باب الفندق، فقام إليهم القيّم بخدمته، فقالوا له: أما تعلمون أن من رفع صوته بالليل يقتل؟ ثم وقف اثنان من الحرس على باب الفندق ليحملونا بعد الفجر للقتل، وجاء القيم فأخبرنا فخفنا خوفًا عظيمًا، وتيقنا الهلاك، فأخذ أبو العباس في الضحك ولا يبالي، ثم خلا بنفسه ساعة عند السحر، ثم قال لنا: لا خوف عليكم قد استوهبتكم من اللَّه، وهذان الحارسيان يقتلان غدًا إن شاء اللَّه تعالى، فقيل له الجزاء عندنا من الأفعال من الخير والشر، وهما لم يفعلا ما يوجب قتلهما، بل جزاؤهما أن يروعاكما روعانًا، فقال: العلماء ورثة الأنبياء، وترويعكم عظيم لا يقابل منهم إلا بالقتل، فما زلنا نعارضه فيه حتى قال: عقوبتنا أن يضرب كلّ مائة سوط، ثم اجتاز عبد اللَّه الخراز صاحب الوقت بالجامع الأعظم فوجد تابوته مفتوحًا، والحرسيان على قرب منها، فلم يشك أنهما حلاه، فحملا إلى رحبة القصر قبل الفجر، فقال لنا أبو العباس: احضروا على ضربهما كما أرادا قتلكم، فتبعناهما وحضرنا حتى ضرب كل واحد مائة سوط.