هذا ما عمله يوسف بن عبد المؤمن في سبيل تقدم هذه العلوم بمملكته. وهاك ما عمله ولده يعقوب المنصور ممثلاً في عنايته الفائقة بفذ من أفذاذ هذه الطبقة. فحكى المؤرخون أن الطبيب أبا بكر بن زهر كان ملازماً له ومختصاً به وكان يقيم عنده المدد الطويلة ولا يرخص له في السفر إلى رؤية أهله وصلة الرحم بذويه وقرباه، حتى قال يوماً، يتشوق إلى ولد له صغير:
ولي واحد مثل فرخ القطا ... صغيرة تلفت قلي لديه
وأفردت عنه فيا وحشتي ... لذاك الشخيص وذاك الوجيه
تشوقني وشوقته ... فيبكي علي وأبكي عليه
وقد تعب الشوق ما بيننا ... فمنه إلي ومني إليه
فسمعها المنصور فأرسل المهندسين إلى إشبيلية وأمرهم أن يحتاطوا علما ببيوت ابن زهر وحارته ثم يبنوا مثلها بحضرة مراكش ففعلوا ما أمرهم في أقرب مدة، وفرشها مثل فرشه وجعل فيها مثل آلاته؛ ثم أمر بنقل عيال ابن زهر وأولاده وحشمه وأسبابه إلى تلك الدار، ثم احتال عليه حتى جاء إلى ذلك الموضع فرآه أشبه شيء بيته وحارته، فاحتار لذلك وظن أنه نائم وأن ذلك أحلام، فقيل له أدخل البيت الذي يشبه بيتك فدخله فإذا ولده الذي تشوق إليه يلعب في البيت، فحصل له من السرور ما لا مزيد عليه ولا يعبر عنه. فهل سمع بمثل هذا الأمر في إكرام العلم والعلماء وهل بقيت بعد هذا غاية في ذلك السبيل؟
ولا تقصر المهمة الموحدية عن أختها العباسية زيادة على ذلك في التنقيب عن الكتب النادرة وطلب المؤلفات الغريبة من سائر الجهات حتى لقد جمع يوسف بن عبد المؤمن الألوف المؤلفة منها، وكانت مكتبته تضاهي مكتبة الحكم المستنصر بالله الأموي. وقد أورد في المعجب هذه الحكاية التي تدل على ما كان يبذله في هذا السهيل من الترضيات الكبيرة. قال: «أخبرني أبو محمد عبد الملك الشذوني أحد المتحققين بعلمي الطب وأحكام النجوم قال: كنت في شبيبتي استعير كتب هذه