للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصناعة، يعني صنعة الأحكام، من رجل كان عندنا بمدينة إشبيلية اسمه يوسف يكنى أبا الحجاج يعرف بالمراني بتخفيف الراء، كانت عنده منها جملة كبيرة وقعت إلى أبيه في أيام الفتنة بالأندلس، فكان يعيرني إياها في غرائر؛ أحمل غرارة وأجيء بغرارة من كثرتها عنده، فأخبرني في بعض الأيام أنه عدم تلك الكتب، بجملتها. فسألته عن السبب الموجب لذلك فأسر إلى أن خبرها أنهي إلى أمير المؤمنين فأرسل إلى داري، وأنا في الديوان لا علم عندي بذلك. وكان الذي أرسل كافور الخصي مع جماعة من العبيد الخاصة وأمره أن لا يروع أحداً من أهل الدار وأن لا يأخذ سوى الكتب وتوعده والذين معه أشدت الوعيد إن نقص أهل البيت إبرة فما فوقها. فأخبرت بذلك وأنا في الديوان فظننته يريد استصفاء أموالي فركبت وما معي عقلي، حتى أتيت منزلي فإذا الخصي كافور الحاجب واقف على الباب والكتب تخرج إليه. فلما رآني وتبين ذعري قال: لا بأس عليك وأخبرني أن أمير المؤمنين يسلم علي وأنه ذكرني بخير ولم يزل يبسطني حتى زال ما في نفسي، ثم قال لي: أهل بيتك هل راعهم أحد أو نقصهم شيء من متاعهم؟ فسألتهم فقالوا: لم يرعنا أحد ولم ينقصنا شيء. جاء أبو المسك حتى استأذن علينا ثلاث مرات فأخلينا له الطريق ودخل هو بنفسه إلى خزانة الكتب فأمر بإخراجها. فلما سمعت هذا القول منهم زال ما كان في نفسي من الروع. وولوه بعد أخذهم هذه الكتب منه ولاية ضخمة ما كان يحدث بها نفسه».

وكان لخزانة الكتب عندهم ولاية خاصة لا يولاها إلا من، ومن، لأن أمرها عظيم لديهم. وممن ولي النظر فيها أيام يوسف بن عبد المؤمن، القاضي أبو محمد بن الصقر، وكان من أحسن العلماء نظراً في كثير من الفنون. فقام عليها أتم قيام، واستنسخ لها كثيراً من المجندات الضخام، وكان كلما بالغ في النصيحة والخدمة كلما بالغوا له في العطايا والهبات.

فهذا وغيره مما أغفلنا، فضلاً عما جهلناه، يعطيك صورة واضحة لما كانت عليه هذه العلوم من الرواج والانتشار في عصر الموحدين الذين لم يألوا جهداً في البر برجالها والإحسان إليهم. ولا تنس المنة التي طرقوا بها عنق العالم المتمدن بانتشالهم الفيلسوف ابن رشد من وهدة الخمول، وإحلاله في المحل اللائق به. فقد علمت أنهم الحاملون له على تلخيص فلسفة الأقدمين كما روى المراكشي عنه. وإن كانت بدت من

<<  <  ج: ص:  >  >>