يعقوب المنصور في حقه نزوة فإن ذلك لا يقدح في موقف الدولة كلها إزاء رجال العلم. على أنه نفسه تدارك ما فات وعاد فاصلح ما أفسده. خصوصاً وقد كان سبب امتحانه له سياسياً محضاً كما فصل ذلك المؤرخون. فإنه في شرح كتاب الحيوان لأرسطو طاليس لما ذكر الزرافة وصفها فقال:«وقد رأيتها عند ملك البربر بمراكش، فلما بلغ ذلك يعقوب حقدها عليه. ثم إن أعداء ابن رشد وجدوها فرصة مناسبة فأغروا المنصور عليه، واتخذوا اشتغاله بالفلسفة ذريعة إلى ذلك، فرفعوا إليه رقاعاً فيها ما يقتدي الكفر والمروق والغرطقة، مثل ما كان في إحداها حاكياً عن الفلاسفة اليونان، «فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة» في أشباه لذلك. فاستدعاه المنصور وأوقفه عليها وقال هذا خطك: فأنكر. فأمر بإخراجه من عنده وطرده، ولعنه الحاضرون. ثم ندم بعد ذلك على ما صدر منه وأرسل يستدعيه، فجاء واعتذر إليه وأكرمه وبقي عنده حتى مات بمراكش رحمه الله. وقد كان له مندوحة عن وصف ولي نعمته بملك البربر، وهو في الحقيقة ليس ملك البربر فقط، ولكن للسان عثرات.
وفي أيام المنصور هذا استبحر العمران بالمغرب وزهت الحضارة وتقدم فن المعمار بتقدم حركة البناء، إذ بنى المنصور مدينة رباط الفتح الفيحاء، وقصبة مراكش وجامعه الفخم بها ومنار الكتبية العظيم بمراكش أيضاً ومنار حسان الضخم بالرباط ومنار الخيرالدة بإشبيلية الذي هو من أعاجيب الدنيا. وأنشأ في جامعه بمراكش المقصورة والمنبر «الأتوماتكيين» وكانا موضوعين على حركات هندسية بحيث يبرزان لدخوله دفعة واحدة ويغيبان لخروجه كذلك. كانت هذه المقصورة كبيرة تسع أكثر من ألف رجل، كما عند صاحب الحلل. والذي صنعهما هو الحاج يعيش المهندس الذي بنى جبل الفتح لعبد المؤمن وقد أعيى الأدباء وصفها حتى قال ابن مجبر فيها قطعته الخالدة:
طوراً تكون من حوته محيطة ... فكأنها سور من الأسوار