هذا ما أردنا نقله من رسالة ابن طفيل وهي على طولها ممتعة ومفيدة في معرفة مدى ما وصلت إليه هذه الصنائع الدقيقة من الرقي والكمال. ودون هذا فإن صنائع أخرى جليلة كانت في غاية من التقدم والإتقان كصناعة الأسلحة بجميع أنواعها والآلات الحربية والسفن، وكان لهذه دور كبيرة في مختلف الموانئ. وفيها صنع الأسطول المغربي العظيم الذي كان يصول ويجول في عرض البحر. واقرأ إن شئت في نفح الطيب ما للشعراء في وصفه من القصائد الطنانة التي تستشعر منها روح الفخار وتتعرف عظمة الأجداد.
وفي هذه الأثناء كان الشريف الإدريسي في صقلية يتقرى البلاد بحراً وبراً لأجل أن يؤلف كتابه (نزهة المشتقاق في اختراق الآفاق)، فيخلف لنا ذلك المستند الجغرافي الذي ما برح مرجعاً مهماً للمستكشفين وأرباب الرحلات ووضعة الخرائط والمصورات.
وإذا كانت مظاهر الحضارة الشعب من الشعوب تتمثل في شتى نواحي حياته الاجتماعية كما تتمثل في النهضة العلمية والصناعية فإن من أخص هذه النواحي ما يتصل بخفض العيش وترف البيت، وأجلى ما يتمثل فيه ذلك المطبخ. ومن ثم قال بعض الحكماء:«أرني مطبخ أية أمة أحدثك عن حضارتها» والواقع أن المطبخ المغربي في هذا العصر بلغ الغاية من التفنن في إعداد أنواع المطاعم والمشارب وإتقانها ما لا نعرف له مثيلاً الآن. وقد أفدنا هذا من كتاب في الموضوع لمؤلف معاصر) (١) تحدث إلينا عن أكثر من خمسمائة لون من ألوان الطعام والشراب والحلوى والمربى وما إلى ذلك ما كان يعمل للخلفاء الموحدين والأمراء منهم ورجال دولتهم على العموم. ومنهم ما يحمل اسم بعضهم لكونه كان يعجبه كثيراً أو لكونه من اقتراحه. ومنها ما يعرف باسمه العم، ومنها ما يعرف بصفته. وبعض هذه الأسماء لا يزال عندنا مستعملة. والمهم هو أن من هذه الأطعمة ما ينسبه بعض الناس اليوم إلى الأتراك ويعتقدون أنه مما أخذ عنهم أثناء حكمهم للقطر الجزائري بموجب المداخلة
(١) هو مخطوط مجهول المؤلف، كتب الأستاذ ويسي المستشرق الإسباني المعروف بحثاً عنه في مجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد، المجلد الخامس الصادر في سنة ١٩٥٧.