للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العلم المذكور في هذا العصر من سمو المنزلة عند الخاصة والعامة، بسبب وقوفهم مع الحق، وسيرهم على الجادة؛ فكان أن عظمت سلطتهم على النفوس وقوي نفوذهم في رجال الدولة. فالفتوى والقضاء، ومناصب الشرع كلها كانت مستقلة عن التدخل الحكومي أو التعرض لها من الرؤساء، وكلمة القاضي كانت نافذة في أكبر كبير، كأصغر صغير. وحسبك أنه لما وقع الشجار بين القاضي أبي الحسن الصغير، والوزير ابن يعقوب الوطاسي، بسبب تعقب هذا الأخير لحكم القاضي، لم يكن من السلطان إلا أن سخط على وزيره وعزله شر عزل.

وهذه المكانة التي كانت لرجال الدين عند الشعب، هي التي جعلت العلامة عبد العزيز الورياغلي يثور بآخر سلاطين بني مرين، ويقلب الدولة المرينية رأساً على عقب، لما سول للسلطان أن يولي على فاس رجلاً يهودياً يسوم أهلها سوء العذاب. أرأيت إلى أي حد بلغ نفوذ الفقهاء في الأمة، فلم لا ينصرفون لخدمة علمهم الذي به رقوا هذه الدرجة من المحبوبية.

ونقول إن هذه النهضة المباركة التي نهضها علم الفروع بسبب الإقبال الشديد على طلبه، قد أفادت العالم من حيث هو، وأفادت الأسلوب العلمي أكثر، حيث قد أدخلت عليه تحسيناً مشهوداً في آثار علماء هذا العصر الممتازة بكثرة الجمع والتحصيل، وحسن التصرف والتعليل، وفي دروسهم التي كانت كأنها بحار تزخر بالفوائد، وترمي بالفرائد، فهذا أبو محمد عبدالله الورياجلي أحد صدور الفقهاء، وممن كانت إليه الرحلة في عصره لأنه كاد يتفرد بمرتبة الاجتهاد، وكان يعرف المذاهب الأربعة معرفة جيدة، فكان يدرسها ويرجح مذهب مالك، وكانوا يقيسونه في علمه بالمازري ولا يعدون به طبقته، وأجوبته تدل على غزارة معرفته إذ لا يذكر فيها إلا الخلاف العالي. قالوا: وكان من عادته أنه يشتغل بالتدريس في فصل الشتاء والربيع؛ وفي المصيف والخريف برابط بالثغور. وهذا ابن الصباغ أملى على حديث «يا أبا عمير، ما فعل النغير» أربعمائة فائدة كلها ما استخرجه بفكره الثاقب من هذا الحديث الشريف.

والغاية في هذا الباب ما روي عن أبي القاسم عبد العزيز بن أبي عمران موسى العبدوسي أحد أفراد بيت العبدوسي الذين ظلوا رجالاً ونساء حاملين راية الفقه والحديث بفاس

<<  <  ج: ص:  >  >>