للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمغرب زماناً طويلاً. وقد رحل أبو القاسم هذا إلى تونس، ودرس بها فقضى التونسيون العجب من وعيه للعلوم وكثرة حفظه. وكثير من علمائهم أوقفوا دروسهم وحضروا عنده رغبة في الأخذ عنه، واتصال السند به. وكان الناس يستبقون إلى المسجد ويأخذون مجالسهم فيه قبل صلاة الصبح، وتغص بهم رحاب المسجد فيجلسون خارجه حتى يكون من خارجه أكثر من بداخله. وكان هو يسمع الكل بصوته الجهير. ولما رأوا تفرده بإتقان علوم الشريعة من فقه وحديث وتفسير، قالوا إنه لا يحسن غيرها، فاقترحوا عليه أن يقدم لهم درساً في العربية فدرسها أيضاً وبهرهم ما شاهدوه مما هو فوق الطاقة، فأجمعوا حينئذ على إمامته وتفوقه في العلوم، وأنه لا يضاهيه في جمعه وتحصيله أحد من المعاصرين سواء بإفريقيا والمغرب.

وبعد، فاسمع ما يقوله علماؤها عنه نقلاً عن أحمد بابا: «قال القاضي أبو عبدالله ابن الأزرق، كتب إليه أبو عبدالله الزلديوي المفتي بتونس، يعرفني بحاله من الحفظ مما يقضى منه العجب، أنه ورد علينا في أخريات عام سبعة عشر وثمانمائة، الفقيه العالم الحافظ أبو القاسم بن الشيخ الإمام أبي عمران موسى العبدوسي بكتاب في يده من قبل الإمام أبي عبدالله بن مرزوق يقول لنا فيه، يرد عليكم حافظ المغرب الآن؛ فقلنا هذا من قبيل مبالغات الإخوان في التوصية بإخوانهم. فلما اجتمعنا به وأقام عندنا أزيد من عام رأينا منه العجب العجاب من حفظ لا نتوهمه يكون لأحد. ولقد كان عندنا بتونس الشيخ أبو القاسم الثبرزلي، سلم له معاصروه في حفظ الفقه وأشياخ المدونة والناس دونه في ذلك، وببجاية الشيخ أبو القاسم المشذالي كذلك. وحضرنا مجالسهم، فما رأينا ولا سمعنا بمثل العبدوسي في حفظه وعلمه، وعلمنا صدق ابن مرزوق فيما وصفه به، وكان كما قال الشاعر:

فلما التقينا صدق الخبرَ اُلخْبرُ

بل صغر الخبَرَ الخْبر» ثم قال في وصف درسه: «وكذلك فعلت أنا، تركت مجلس تدريسي وحضرت عنده لأخذ شيئاً من طريقه، فرأيت شيئاً لا يدرك إلا بعناية ربانية، موقوف ذلك على من رزقه الله الحفظ ينفق منه كيف يشاء. لازمناه

<<  <  ج: ص:  >  >>