للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

متردداً في هذا حتى جاءني ثلج اليقين على يد الأستاذ عبد الله كنون الذي جزم بأن هذه الخطبة النادرة إنما كانت من جملة ثمرات انطباع البربر بالطابع العربي البحت (١).

ثم أشار الأستاذ إلى مثار الخلاف لأول الفتح بين العرب والبربر، فلم تأخذه العصبية للعرب الذين هو منهم، بل من أشرف بيوتاتهم، سبيل المؤرخ الصادق لا يحابي في الحق، بل سبيل المسلم العامل بمقتضى شريعته، الحافظ قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: ١٠] الراوي حديث رسوله صلى الله عليه وسلم وهو: «ليس منا من دعا إلى عصبية» فذكر أن مثار النزاع بين الأمتين كان استبداد العرب بوجوه المنافع، واستئثارهم بمناصب الدولة من أيام الإمام إدريس رضي الله عنه، فكان هذا الأمر سببا للتنافس بين الفريقين في المغرب، وأنا أقول أن هذا الأمر نفسه قد كان سببا لتنافسهما في الأندلس منذ أوائل الفتح، حتى إن فريقا من البربر بلغ منهم السخط أن تركوا الجهاد في الطرف الشمالي من بلاد الجلالقة حيث كان منهم العدد الأغلب من المجاهدين، فأصبحت تلك الثغور عورة، ورجع الإسبان فاستولوا عليها، وكان بذلك مبدأ المقاومة الإسبانية ونمو شوكتها، ولم تزل مع الزمن تنمو


(١) يستشكل بعض الباحثين صدور خطبة طارق بن زياد منه وهو بربري قُح، يُستبعد أن تكون له هذه العارضة القوية في اللغة العربية حتى يأتي بتلك الخطبة البليغة، وهو استشكالٌ في غير محله:
(أولًا): لأن طارق بن زياد إن كان أصله بربريا فقد نشأ في حجر العروبة والإسلام بالمشرق، ولم هو الذي أسلم أولًا بل والده، بدليل اسمه زياد فإنه ليس من أسماء البربر، ولا شك أنه كان من مسلمة الفتح المغربي الأول، وأنه انتقل إلى المشرق حيث تولاه موسى بن نصير ونشأ ولده في هذا الوسط العربي الذي كونه وثقفه.
(ثانيًا): لأن نبوغ غير العرب في اللغة العربية منذ اعتناقهم الإسلام أمرٌ غير بدع حتى يستغرب من طارق، وهو قد نشأ في بيت إسلامي عربي، فعندنا سلمان الفارسي الذي قضى شطر حياته في بلاد عجمية فلما أسلم بعد ذلك تفتق لسانه بالعربية إلى أن قال فيها الشعر، وبيته المضروب به المثل في الاعتزاز بالإسلام واعتباره هو نسبه الذي يفخر به، إذ افتخروا بقيس أو بتميم، لا يخفى على أحد.
ونمثل ببربري آخر، غير طارق وهو: عكرمة مولى ابن عباس الذي قال فيه الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة؛ ومقامه في العلم والرواية لا يُجهل.
(ثالثًا): لأنه ليس في الخطبة من صناعة البيان ما يمتنع نسبتها لطارق، وبلاغتها في نظرنا إنما ترتكز أولًا وبالذات على معانيها، والمعاني ليست وقفا على عربي ولا عُجمي. نعم يُمكن أن يكون وقع في هذه الخطبة بعض تصرف من الرواة بزيادة أو نقص، ونحن قد صححنا فيها بالفعل إحدى العبارات التي لم تكن واضحة الدلالة على معناها، ولكن هذا لا ينفي أصل الخطبة، ولا يصح أن يكون حجة للتشكك في نصها الكامل. هذا رأينا ولكل وجهة، والأمير شكيب رحمه الله لشدة المودة التي كان يخصنا بها جعلنا حجة في صحة نسبة الخطبة لطارق ولسنا هنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>