كاملاً في نفسه ومنبعاً يتدفق منه الصلاح والكمال إلى غيره. ووصلنا هذا بنكتة لطيفة أعهدها لبعض المفسرين عند قوله تعالى (وسراجاً منيراً) وهي أنه وقع تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم بالسراج دون أن يمثله بنحو القمر الذي هو أغزر نوراً لأن القمر يضيء في نفسه ولا يمكن أن يستمد ضوئه عدة أجرام تكون مضيئة في نفسها بخلاف السراج فإنه يضيء في ذاته ويمكن أن يقتبس منه سرج لا يشملها الإحصاء فالتمثيل به أوفى بالمراد وأقرب مطابقة لحاله عليه الصلاة والسلام.
أتينا هنا على ان المنذر يتعين عليه أن يتحرى في إنذاره بحيث لا يستند فيه إلا على علم صحيح من آية أحديث ثابت أو نص من يقتدى به من الأئمة. وخرجنا منه إلى جريمة الحكم بغير ما أنزل الله وقررنا ما نعهده للرازي في آية (ومن لم يحكم) وفيما نقلناه من الأجوبة عن آية (فآولئك هم الكافرون) أن المشار إليهم بالكفر هنا من حكموا بغير ما أنزل الله معتقدين أن ما قضوا به أوفق بالسداد وأحفظ للمصالح. وأدرجنا هنا دقيقة للشيخ ابن عرفة وهي أن أسلوب الآية أبلغ من أن لو قيل (ومن حكم بغير ما أنزل الله) فإن هذه العبارة لا تتناول من تقدم إليه الخصمان بقضية فأهملها وهو يستطيع فصلها بخلاف الآية فإنها تتناول من حكم في القضية بالباطل ومن أبى الحكم فيها بما أنزل الله وسكت وهو منتصب في مقام الفصل بين الناس.
انتقلنا إلى أن للإنذار بالقرآن تأثيراً بالغاً على النفوس بحيث لا يقوم كلام البشر مقامه وإن ارتقى من البلاغة ذروة سامية. واستطردنا مقالة نفيسة لصاحب المنهاج وهي أن الله تعالى خص القرآن بأنه دعوة وحجة ولم يكن مثل هذا النبي قط إنما كان لكل واحد منهم دعوة ثم يكون له حجة غيرها وقد جمعها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن فهو دعوة بمعانيه حجة بألفاظه وقلنا عقب هذا أن القرآن حجة أيضاً فإن استقامة سائر ما احتوى عليه من القضايا وانطباقها بجملتها وتفاصيلها على مناهج الحكمة ورسم السياسة العادلة يدل دلالة مثل فلق الصبح على أنه وحي سماوي وأنه بريء من أن تبتدعه أفكار البشر وبهذا يمكن للعجم الذين لا يحسنون العربية أن يدر كواوجها من إعجازه متى نقلت لهم معانية الأولية بترجمة محررة.