الوسع في إسعادهم ولم يصدهم عليهم الصلاة والسلام عن سبيل النصيحة ما كانوا يقاسونه من الأذى ويلقونه من الشدائد والجفا بل منحهم الله من الصبر والثبات ما هون عليهم البلايا وحبب إليهم تكبد المشاق في سبيل النصح والإرشاد.
وعلى هذا سلك الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة وسلف الأمة عملاً بقوله تعالى (ولتكن منك أمة يدعون إلى الخير الآية) واهتداء بيديه صلى الله عليه وسلم فلم يألوا جهداً في بذل النصيحة إلى الإضرار بدنياه فكلم في ذلك فقال عاهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم ولم يهابوا في نصحهم ملكاً لسطوته ولا غنياً لشوكته يروى أنه لما تولى هارون الرشيد الخلافة جلس للناس مجلساً عاماً فدخل عليه رجل ممن اشتهر بالصلاح يقال له بهلول فقال يا أمير المؤمنين احذر جلساء السوء واعتمد جليساً صالحاً يذكرك بمصالح الخلق إذا غفلت والنظر فيهم إذا لهوت فإن هذا نفع لك وللناس وأكثر في الأجر مما يأتي به من صوم وصلاة وقراءة وحج ولا تكن كمن قال الله في حقه (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) فقال له هرون زدني فقال إن الله قد قاد لك الناس وجعل أمرك فيهم مطاعاً وكلمتك فيهم نافذة وما ذلك إلا لتحملهم على الإتيان بما أمر الله والانتهاء عما نهى عنه وتعطي من هذا المال الأرملة واليتيم والشيخ والكبير وابن السبيل يا أمير المؤمنين أخبرني فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا كان يوم القيامة وجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد أحشر الملوك وغيرهم من ولاة أمور الناس فيقول ألم أمكنكم من بلادي وأطعه لكم عبادي لا لجمع الأموال وحشد الرجال بل لتجمعوهم على طاعتي وتنفذوا فيهم أمري ونهي وتنصروا المظلومين من الظالمين يا هرون تفكر كيف يكون جوابك عما تسل عنه من أمور العباد في ذلك الموقف فبكى هارون بكاءً شديداً فقال بعض الحاضرين كدرت على أمير المؤمنين مجلسه فقال هرون لهم إن المغرور من غررتموه والسعيد من بعدتم عنه. فانظر يا رعاك الله إلى نصيحة هذا الرجل كيف واجه بها الخليفة مع ما هو عليه من الملك والسطوة والجاه والثروة ولم يخش بأسه ولم يرهب سلطانه هكذا كانت نصائح السلف الصالح ومواعظهم ويرويها لنا التاريخ تذكيراً للساهي وتنبيهاً للغافل ومضياً مع الهمم العالية والعزائم الصادقة.
أصبح المسلمون اليوم في حالة يصهر لها الجسم أسفاً ويذوب الفؤاد حسرة ولهفاً لا ناصح