بينه وبين خلقه حتى صفى سرائرهم من الكدورات البشرية والرعونات النفسية إلى درجة لأن يتلقوا الوحي عنه بالإلهام وتارة بواسطة الملك النوراني الذي يرسله إليهم فيختلط بأرواحهم وينفث في قلوبهم ما أمره الله به من الأحكام والأخبار فأرواحهم إذا لم تكن في غاية من الطهارة والصفاء كيف يمكنها أن تتلقى الوحي من الله وتستأهل منصب النبوة الذي ليس فوقه منصب.
وأما دليل وجوب التبليغ فلأن وظيفتهم الإرشاد والتعليم والترغيب إلى الفضائل والترهيب عن الدنايا وتبيين الحدود والأحكام التي أمروا بتبليغها عن ربهم فلو كتموا شيئاً مما أمروا بتبليغه لأدى ذلك إلى نقص في وظيفتهم ولكانت جميع أممهم مأمورين بكتمان العلم لأن الله تعالى أمر العباد بالاقتداء بهم في أقوالهم وأفعالهم وحذر من الكتمان بقوله (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) وكيف يتصور كتمان شيء مما أمروا بتبليغه وقد أنزل الله على إمامهم وخاتمهم صلى الله عليه وسلم (يا آيها الرسول ما أنول إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) أي إن لم تبلغ بعض ما أمرت بتبليغه فحكمك حكم من لم يبلغ شيئاً منها.
وأما دليل وجوب الفطانة فلأن الله تعالى وهبهم من قوة الذكاء وسمو المدارك وأصالة الرأي ووفور العقل وثقوب الفهم ما به يتمكنون من إلزام الخصوم وإقامة الحجج الدامغة لدحض دعاوي أهل العناد فلو كانوا متسمين بالبلاهة والغباوة لما تكنوا من نصب الدلائل الواضحة والبراهين القوية لاحجاج الملحدين، ونسف صروح المتعنتين، ومما يرشدنا إلى أنهم عليهم الصلاة والسلام كانوا على جانب عظيم من الذكاء والفطنة ولهم المكانة العليا والقدم الراسخ لإقامة الحجة وإظهار الحق قوله تعالى (وتلك حجتنا آتينا إبراهيم على قومه) وقوله (يا نوح قد جادلتنا) وقوله (وجادلهم بالتي هي أحسن) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اقتدارهم لمجادلة أهل الكفر والطغيان ومقارعتهم بالحجة والبرهان حتى يفوزوا بالانتصار ويسجلوا على أعدائهم الخذلان والبوار.
وأيضاً فإن الغباوة والبلادة من صفات النقص التي لا يرتضيها أقل الناس لنفسه فضلاً عن الأنبياء الكرام المنزهين عن النقائض المتصفين بأسمى صفات الكمال التي تليق بهم.